الخط العربي.. حِرفة الخطاطين والفنانين..

تراث عريق وإبداع متأصل

في فضاء الكتابة، يتصدر الخط العربي مشهد الفنّ الأصيل بوصفه تجليًا راقيًا للعقل والروح، وجسرًا خالدًا بين الماضي والحاضر، وبين الجمال والهوية. لا يمكن الحديث عن الخط العربي دون استحضار تلك الأيادي التي روّضت الحبر والقصبة، وجعلت من الكلمة لوحة، ومن النقطة كيانًا، ومن الجملة نغمةً تلامس البصر قبل السمع. هوية المملكة لم تكن يومًا غريبة عن هذا الفن العريق، بل احتضنته في رايتها ومدارسها ومساجدها وواجهاتها الثقافية، وجعلت منه رمزًا حيًا لارتباطها المتين بالقرآن الكريم، وبلغتها العربية التي تتربع على عرش القداسة والفصاحة، وتأكيدًا على هذه المكانة تم اختيار العام 2020م عامًا للخط العربي، ومع إعلان العام الجاري 2025 عامًا للاحتفاء بالحرف اليدوية، تقف حرفة الخط العربي شامخة ضمن هذه المسيرة، مؤكدةً أنها ليست مجرد حرفة فنية، بل إرث حضاري متجدد ينبض بالحياة. جسيد حي للحضارة الخط العربي ليس مجرد وسيلة لتسجيل الكلمات أو حرفة زخرفية عابرة، بل هو تجسيد حي لحرفة دقيقة تحمل في ثناياها عراقة حضارة امتدت لقرون، وارتبطت ارتباطًا وثيقًا بتاريخ الأمة وثقافتها، تمثل حرفة الخط العربي أكثر من مجرد فن ومهارة؛ فهي إرث ثقافي وروحي متجدد، خصوصًا مع ارتباطها الوثيق بالمقدسات الإسلامية التي تحتضنها المملكة، فاحتضان مكة والمدينة ـ قلب الإسلام وروحه ـ جعل من الخط أداة مقدسة للحفاظ على نصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة بأساليب فنية متقنة تعبّر عن قدسيتها وجلالها، ويمارس الخطاطون السعوديون الحرفة بشغف يمتزج مع احترام عميق للتقاليد، ويحرصون على الحفاظ على أصالة الحرفة بينما يستجيبون لتطورات العصر من خلال دمج التقنيات الحديثة دون المساس بروح العمل اليدوي الذي يمنح كل قطعة طابعها الفريد، وحرفة الخط العربي في المملكة بهذا العمق والتنوع، لا تقتصر على إنتاج أعمال فنية فقط، بل هي وسيلة تواصل بين الأجيال، تحمل في طياتها قيم الهوية والتاريخ والحضارة، وتساهم في إبراز جمال اللغة العربية بطريقة لا تضاهى. الخطاط .. صانع المعنى والجمال الخطاط في جوهره ليس مجرد منسق للحروف، بل هو صانع توازن فني يجسد من خلال حروفه تآلف الذوق والدقة، ويحوّل الفراغ بين الحروف إلى مساحة ذات حضور ووزن بصري، يحمل رسائل عميقة تتجاوز مجرد الكلمات. هذه الحرفة تحتاج إلى سنوات من التمرس، حيث يتعلم الخطاط قراءة الحروف بعينه قبل يديه، متماهيًا مع الأدوات التقليدية مثل القلم والقصبة، ليصبح كل خط إبداعًا نابضًا بحياة خاصة، والحرفة نفسها تستوجب مهارات فنية عالية؛ إذ لا تكتفي اليد بمتابعة القلم على السطح، بل تتطلب التحكم في الزوايا، وطول وانحناءات الحروف، ووزن التوازن بينها، وهي تفاصيل دقيقة قد تحتاج إلى سنوات من التدريب والتمرين. في المملكة، بزغت أسماء لامعة أثرت المشهد الفني للخط العربي، وتركت بصمة واضحة في تاريخه، من بين هؤلاء؛ العالم والفقيه والخطاط محمد طاهر الكردي، الذي وُلِدَ في مكة وهو أربيلي الأصل، واشتَهَر بكتابته مصحف مكة المكرمة، وعبدالرحيم أمين بخاري، وهو خطاط كسوة الكعبة المشرفة وواضع خطوط بابها الذي أمر بصناعته الملك عبدالعزيز، وناصر بن عبدالعزيز الميمون، عميد الخطاطين السعوديين كما يلقبه محبوه، وهو من أبرز الخطاطين الذين كرّسوا حياتهم لتعليم وتطوير الخط العربي في المملكة، والخطاط الشيخ عثمان طه الذي يعدّ أحد أبرز الخطاطين العرب، وهو خطاط المصحف الشريف بالمدينة المنورة، أحد أكثر نسخ القرآن الكريم انتشارًا في العالم الإسلامي، وكتب القرآن الكريم كاملاً 12 مرة، وقد حصل على الجنسية السعودية تكريمًا لجهوده في ديسمبر 2021م، وهناك أيضا الخطاط الراحل صالح المنصوف، خطاط العلم السعودي، حيث أبدع في أسلوب كتابة الشهادتين والسيف على بيرق التوحيد، والخطاط مختار عالم، وهو أحد خطاطي كسوة الكعبة وشيخ خطاطي ‫مكة‬، وقد مُنِحَ الجنسية السعودية قبل أعوام، والخطاط محمد سالم باجنيد، وهو أيضا من كبار مصممي ثوب الكعبة، والخطاط حيدر العلوي الذي اختارته دارة الملك عبدالعزيز ضمن كوكبة من الخطاطين لكتابة مصحف الرياض. وهناك أسماء عديدة أخرى مثل الخطاطين: فهد المجحدي، وإبراهيم العرافي، وحسن آل رضوان (عابد)، وعبدالعزيز البديوي، ومسعود بن حافظ، وعبيد النفيعي، وأسامة القحطاني، وعائض آل عبيد، وجمال الربيعة، وهذه الأسماء وغيرها من الخطاطين السعوديين، سواء الراحلين أو من هم على قيد الحياة، ليسوا فقط ممارسين لمهنة بل هم سفراء للخط العربي في كل محفل ثقافي وفني، وهم الذين كتبوا صفحات من الفن السعودي بأحبار الفخر والابتكار، وقد لعبوا دورًا محوريًا في زخرفة المساجد الكبرى، وتصميم الشعارات الرسمية التي تعبّر عن كل هوية وطنية متجددة، كما شاركوا في إعداد نسخ فاخرة من المصاحف، وتحت مظلة رؤية المملكة 2030 تضاعفت الجهود الرسمية في دعم هذه الحرفة، حيث تعقد معارض وطنية ودولية متخصصة بالخط العربي، وتطلق المبادرات التي ترعى الخطاطين، كما نشطت الورش الفنية والدورات التدريبية التي تدمج بين التراث والابتكار. عُدّة الخطاط وأسرارها الكتابة بالخط العربي ليست مجرد نقل للكلمات، بل طقسٌ فنيّ له أدواته وطقوسه التي تشبه طقوس النساك في خلواتهم. يبدأ الخطاط أولى خطواته باختيار القلم، وغالبًا ما يكون من القصب أو البوص، مقطوع الرأس بزاوية دقيقة، ومبردًا بعناية ليناسب نوع الخط المقصود. هذا القلم ليس أداة عادية، بل امتدادٌ لذراع الخطاط ومزاجه، ولا يُستعمل إلا بعد تمرينه وتشذيبه وترويضه على الورق كما يُروّض العازف آلة وترية. أما الحبر، فهو عالم قائم بذاته. لا يكفي أن يكون أسود داكنًا أو أزرق ناعمًا، بل لا بد أن يمتاز بلزوجة خاصة، وعمق لونيّ يجعله ينساب بانضباط دون أن يفرط في السيلان أو يتجمد في رأس القلم. يصنع بعض الخطاطين حبرهم بأنفسهم، من الفحم أو الزعفران أو مزيج من المواد الطبيعية، وكأنهم يخوضون تجربة كيميائية تمزج الفن بالعلم. وتأتي الورقة كالمسرح الذي سيستقبل هذا العرض الجمالي؛ لا بد أن تكون مصقولة، قوية، بلا زوائد أو مسام، وقد تُشَدّ أحيانًا على ألواح خشبية، أو تُصقل ببياض البيض أو النشا، ليضمن الخطاط انسيابية الحرف على سطحها، ولا يخلو الأمر من محبرة زجاجية، وسكين دقيقة لسنّ القلم، ومسطرة للقياس، وأحيانًا أوزان رصاصية لتثبيت الزوايا، وتتجلى الحرفة هنا في أدق تفاصيلها، حيث لا مكان للعشوائية أو السرعة. كل نقطة توضع بتأنٍ، وكل انحناءة تُرسم بعد تقدير بصري مسبق، حيث الخطاط لا يكتب فحسب، بل يعيش كل حرف، يصوغه كما يصوغ النحّات منحوتته، ويمنحه من روحه بقدر ما يمنحه من يده. من الورق إلى الشاشة الخط العربي في المملكة لا يقتصر على النخبة، بل هو حي في الوجدان الشعبي، إذ لا يكاد يخلو بيت من لوحة خطية، أو آية مرسومة، أو اسم مزخرف يعتلي واجهة محل أو وثيقة عائلية، هذا الحضور الشعبي جعل من الخط فنًا متداوَلًا، ومن الخطاط شخصية مألوفة في الذاكرة السعودية، وقد شكلت المناسبات الوطنية والدينية منصات مهمة لعرض فن الخط العربي ضمن إطار بصري جذاب، كما كان للخط العربي دورٌ في تعزيز مكانة اللغة العربية نفسها، خاصة في زمن تتعرض فيه لغات الهوية لضغوط العولمة، فالخط بخطوطه المتنوعة وبهائه البصري، يقدم اللغة العربية ككائن جمالي حي، قادر على المنافسة والبقاء. ورغم طابعه التقليدي، لم يكن الخط العربي بمنأى عن التقنيات الحديثة، فقد دخل عالم الرقمنة من أوسع أبوابه، عبر تصميم الخطوط الحاسوبية، وتطوير برامج تصميم احترافية تحاكي يَدَ الخطاط، وقد أنتجت المملكة عددًا من الخطوط الرقمية الرائدة، مثل “الخط السعودي” و”الخط الأول” و”خط المصمك” و”خط النسيب”، وهو ما يؤكد التزامها بترسيخ الخط العربي رمزًا ثقافيًا متجددًا في مختلف مجالات الحياة، وقد أصبحت هذه الخطوط الرقمية أدوات أساسية في بناء الهويات البصرية للوزارات، والهيئات، والمشاريع الكبرى. مجدٌ يُروى بالحبر في كل انحناءة قلم ونقطة حبر، يتجلى وعيٌ حضاري عميق، صاغته الأيدي الماهرة على مر العصور، وبقي الخط العربي شاهدًا حيًّا على عبقرية الإنسان العربي في تشكيل الجمال من الحرف، وتتويجًا لهذا الاعتزاز تم تدشين مركز الأمير محمد بن سلمان العالمي للخط العربي في المدينة المنورة، ليكون منارة للمعرفة، وحاضنًا للمهارة، ومنصة لتعزيز هذا الفن النبيل داخل الوطن وخارجه، كما جاءت المبادرة الرائدة التي قادتها المملكة بالتنسيق مع 14 دولة عربية، لتسجيل الخط العربي في قائمة التراث الثقافي غير المادي لدى اليونسكو في ديسمبر 2021، تأكيدًا على ثراء هذا الفن وأهميته التاريخية والفنية.