
عندما تعصف الأزمات بالشعوب تسود النكات كأنها قوّة ناعمة لمعالجة ضغوط الواقع من جديد بطرق و أساليب في جوهرها الإضحاك و الطرافة،إلا أنها، في عمقها،تطرق تساؤلات عديدة تتعلق بعلاقة الأنا و الآخر و علاقتهما بالواقع المتغير في كل آن و مكان من أنحاء العالم. و كأن النكتة تحضر كردّة فعل إزاء مشهدية واقع قاسٍ لإحداث توازن ينقذ العقل من صرامة الواقع ويبحث عن معنى الانسجام في زمن متشظ، سياسيا و اجتماعيا و أسريا و ثقافيا. حيث أن كلمة نكتة تعني في المعجم العربي: “ الفكرة اللطيفة المؤثرة في النفس”.فالتأمل في سياقات النكات التي تخرج من صلب واقعنا يجعلنا نقر أنها تأتي كفعل للترميم و التعويض بواسطة الخيال لتحوّل الانكسار اليومي إلى فكاهة، و ترسم على شفاهنا مسرات صغيرة. و هنا نعود إلى ما قاله فرويد:”لا يوجد شيء متحرر في الدعابة فحسب، بل يوجد شيء سام و راق.” . تفرض النكتة وجودها عبر الأزمنة، بمختلف تجلياتها و أزماتها الظاهرة و الباطنة،لتكون جزءا من إيقاع حياة يومية تتضاعف مرارتها، فتصبح الفكاهة متنفسا لطرد العتمة من الواقع . لماذا تسود النكتة عندما تعصف الأزمات بالشعوب؟. فيما يخص الإجابة عن هذا السؤال(موضوع الملف)، توجهت (اليمامة) إلى مجموعة من المختصين و النقاد. الرسام الكاريكاتوري توفيق عمران)تونس(و الأكاديمية في علم الاجتماع رحمة بن سليمان ) تونس (والرسام الكاريكاتوري عبد الله صايل )السعودية(و الأكاديمي الناقد خالد عاشور )مصر( و الأكاديمي و الناقد سليمان الحقيوي )المغرب( و الأكاديمية و الناقدة سعاد الزريبي)تونس(والإعلامي و المنتج طارق أبو لغد )الأردن(و الباحث في علم الاجتماع و علوم الإعلام و الاتصال رياض سكمة )تونس( و الأكاديمية في علم الاجتماع لطيفة التيجوري(تونس) و الفنان التشكيلي سهيل بدور (سوريا). النكتة كأداة لتحطيم الهيبة يقول الرسام الكاريكاتوري التونسي توفيق عمران: “«ما ينفع فيها كان الضحك»، جملة معتادة لدى التونسيين يقولونها عند تعرضهم لمشكلة ما، أو عند الشدائد. وهو دليل على أن النكتة، و الضحك عموما،هو سلاح فعال لمجابهة الكوارث والأزمات والمشاكل،أكانت عامة أو فردية. ألم يخلق الأوروبيون نوادٍ للضحك؟ ألم يبرهن العلم بأن الضحك هو إكسير لعلاج الأمراضٍ؟.” و يضيف:” هنا، نفهم أن النكتة هي عادة اجتماعية لا تقتصر على مجتمع معين دون آخر، بل هي وسيلة للضحك ولملمة جراح الأحزان لدى شعوب العالم قاطبة. من ذلك أن نكتةً ما قادرةٌ على الإضحاك بتونس وفرنسا والسنغال والبرازيل والصين وغيرها من مناطق العالم، رغم اختلاف اللغات. غير أننا نلاحظ أن أكثر الشعوب خلقا وإبداعا للنكتة هي أكثر الشعوب فقرا!.بمعني أن الإنسان كلما ازدادت تعاسته ازداد خلقا للنكت للترفيه عن نفسه والتخفيف من وطأة الحزن الجاثم على كتفيه.” و يستدرك عمران، قائلا :”لكن كيف أرى المسألة من جانب شخصي؟ يعني من خلال تجربتي الذاتية كإنسان أو كرسام كاريكاتوري؟ النكتة تنقسم إلى فروع عدّة لعل أهمها؛الاجتماعي و الديني والسياسي. فالنكتة السياسية هي عبارة عن رسم كاريكاتوري محكيّ. والكاريكاتور السياسي ينتشر عند الأزمات السياسية (أي غياب الديمقراطية) فيعتمد الرسامون على الهزل والإضحاك والتندر من السياسيين بطريقة مبطنة ورمزية،حيث تقوم هذه الرسوم بتخفيف معاناة الشعوب من تسلط السياسيين. فالرسم الكاريكاتوري ينزع عن السياسي هالة العظمة الشيء الذي يعجب القارئ أو المتقبل فيرى أن ذلك الرسم قد قام نيابة عنه بالثأر من رجل السياسة. “مضيفاً: “في التسعينات، عشت مشكلةً صحيةً ألزمتني البيت لأكثر من سنة، ومضايقةً سياسية حرمتني من الشغل. في هذا الظرف الصعب (لا شغل، لا مال) وجدت متنفسا في النكات. قررت وقتها، لمجابهة مشكلتى؛ المالية والصحية، أن أقوم بجمع ونشر نُكات الجريدة في كتاب. كم كانت التجربة جميلة! لقد نجحت في جمع أكثر من مائتي نكتة وقمت بنشرها وكانت النتيجة مبهرة. بيعت النسخ كلها فتجاوزت المشكلتين؛ المالية والصحية. إنه أكبر دليل على أن النكتة تتطور و تستفحل زمن الأزمات لتلعب دور الإكسير المضاد لهذه الأزمات.وعمومًا، النكتة، الكاريكاتور، المسرح الهزلي، كلها وسائل ترفيهية عالمية تتطور وتنتشر زمن الأزمات للتخفيف عن الشعوب من ارتدادات تلك الأزمات.” النكات .. تنفيس عن شعور مكبوت من جهتها، ترى الأكاديمية التونسية في علم الاجتماع، رحمة بن سليمان: “ أن الفكاهة تمثّل قدرة عقليّة وروحيّة تكشف عن جملة من العناصر المضحكة المتناقضة في الأقوال والأفعال والحركات و المواقف، حيث يتمّ التجاوب معها بالضحك أو الابتسامة أو الرضا الروحي. كما تُعرّف النكتة أيضا كأحد أنواع الفكاهة. وهي في الغالب تعبير عن رغبة وتنفيس عن شعور مكبوت، وتفريغ انفعالي بخصوص مسألة استعصى على الذّات حلّها، إذ تتخذ أشكالا عديدة ومختلفة كالكتابات أو الصور أو الأوضاع.” وترى بن سليمان أن النكتة والدعابة والفكاهة تظهر في الغالب في وضعيّات اجتماعيّة لا يسودها الاستقرار والتوازن، فتضيف :”من”المفارقات الاجتماعيّة”؛ تزامن انتشار التعبيرات الفكاهيّة مع فترة الأزمات الاجتماعيّة والصحيّة والاقتصاديّة. وهذا ما لوحظ في فترة ثورات الربيع العربي،وفترة انتشار فيروس “كورونا”.فرغم تأزّم الأوضاع وحساسيّة المرحلة وارتفاع عدد الأموات وضبابيّة المشاهد وغياب رؤى مستقبليّة واضحة، برزت ظاهرة الفكاهة في الفضاءات الالكترونيّة وخاصّة على مواقع التواصل الاجتماعي، كطريقة مغايرة لرؤية هذا الواقع المتأزّم. ومن هذا المنظور، يبدو أن الضحك في أوقات الأزمات يعني بالضرورة التعبير عن شيء ما وتمثيله خارج نطاق الأزمة.” و تكمّل:”لذلك تتطلّب هذه الوضعيات فهما وتحليلا يعيد النظر في مختلف أشكال التفاعل في أبعادها الرمزيّة والتواصليّة وفق معطيات اجتماعية استثنائيّة. وبرصد الأطر التحليليّة لهذه السلوكات لاحظنا أنّ انتشار الفكاهة في زمن الأزمات أصبح يمثّل نوعا من الطقوس التفاعليّة المشبعة بالرموز ذات الدلالات والمعاني الخارجة عن المعتاد والمألوف، حيث تجاوزت الأشكال التواصليّة اليوميّة لتتخذ أبعادا سوسيو-نفسيّة تتجلّى في ميكانيزمات دفاعيّة تسمح بتجاوز الأزمة وحسن إدارتها والتحكّم في زمن الأزمة “المحسوس”. والحال أنّ الأفراد أصبحوا يعانون من طول الوقت بسبب الفراغ الذي فرضه الحجر الصحّي وحظر التجوّل، وهذا سمح بظهور آليات للمقاومة الفرديّة ومن بينها اعتماد الفكاهة موردًا نفسيًا يساعد على حماية الأفراد ويسهل عملية المقاومة في أبعاد متعددة.”حسب قولها. النكات ...طوق نجاة أما بالنسبة إلى رسام الكاريكاتور السعودي عبد الله صايل فيعتبر أن :”النكات هي طوق النجاة الذي لا خيار سواه للبقاء عندما تعصف الأزمات. فالناس تتعلق بقشة عندما يصل الطوفان، بينما (السخرية) والنكتة طوق نجاة قادر على استيعاب الكثيرين ومساعدتهم لكي يستمر الطفو على السطح لحين الوصول إلى بر آمن.” و يضيف الصايل :”هذا ما نقدمه في ولائمنا اليومية عبر الكاريكاتير، ويقال (شر البلية ما يضحك) ومن هنا تبرز المفارقة! ليظهر المشهد مغرقا في السخرية ودافعا نحو الابتسام والضحك. وفي الأزمات تخرج قرارات ارتجالية كثيرة، تدفعنا للتعليق بسخرية على بعض هذه القرارات مع ترك الحرية للجانب الإبداعي في استعراض نتائجها المحتملة في مشاهد تدفع للضحك. وهذه القرارات مردودة أصلا لأننا لا زلنا نعاني في الوطن العربي مع فهم أنجح الطرق لإدارة الأزمات، فنرى عبقريات الارتجال تتفتق مولّدة مفارقات مضحكة في عز الأزمة.” من هنا تكون النكتة طوق نجاه لكل من يعانون من إخفاق غيرهم في إدارة الأزمات، كما أن النكتة تهوّن على الناس تبعات الأزمات وسوداويتها، وبهذا تواصل الناس الطفو على السطح لحين انجلاء الغمة، وعودة الأمور إلى سياق المفهوم والقابل للتعايش”. وفق تعبيره. النكات.. غليان ينتظر لحظة انفجار الناقد والأكاديمي المصري خالد عاشور، يرى أن: “الإنسان هو الكائن الوحيد بين الكائنات الحية التي تعيش على كوكب الأرض و يمتلك خاصية السخرية والتنكيت والسخرية حد الضحك من نفسه ومن كل ما بدور حوله؛ كمحاولة منه للتوازن النفسي و إخراج مكنون الغضب بداخله. لذا يطلق على الإنسان “بالحيوان الضاحك”..لأن الإنسان بطبيعته يمتلك أكثر نفوس الكائنات الحية غرابة في علم النفس السلوكي الذي خصص جزء من دراساته لسلوك السخرية وعلم الفكاهة أو النكتة “ . و يفسر عاشور ذلك بأن :”كلمة النكتة في الأصل اشتقاق من فعل “نكت” أي الضرب والقرع على الأرض بعصاأو حجر.. ومنها: “نكت” أحدهم الآخر بشيء في رأسه،أي ضربه به.. ويذكر التاريخ الحديث أن أول من استخدم مصطلح “النكتة” -النظير المعاصر لكلمة السخرية- هوبديع الزمان الهمذاني في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي “395هجرية 1007 ميلادية”. مضيفا: “أنه في البدء كانت النكتةفالسخرية بطبيعتها واحدة من أدوات الشعوب للتنفيس عن الضغط النفسي أو السخرية من همومها الداخلية وخاصة إذا ما زادت الأزمات التي تمر بها الشعوب.. وإذا أخذنا مثلا على أكثر الشعوب العربية، وربما أكثر شعوب العالم تنكيتاً، “ابن نكته” سنجده الشعب المصري..فللشعب المصري طبيعته الخاصة وتركيبته الاجتماعية التي تختلف عن باقي شعوب العرب. وذلك لكثافة سكان مصر واختلاف أعراقهم وجغرافيتهم من الصعيد إلى الدلتا إلى الشمال والأطراف الشرقية والغربية التي تحمل أسماء محافظات تدل على الاتجاه أو الموقع،كما في محافظات “الشرقية والغربية” أو محافظات الجنوب “الصعيد” لأنها تحتل مصر العليا في جنوب مصر.هذا التنوع الاجتماعي يثري عملية السخرية والنكتة في مصر لدرجة أن أهل الشمال يطلقون نكاتاً على أهل الجنوب “الصعيد” وكذلك يفعل أهل الصعيد بالتنكيت على أهل الشمال.. وكلاهما يؤلف نكتا على أهل الدلتا أو محافظات الساحل.. والجميع يجمع على السخرية والتنكيت على الأنظمة الحاكمة منذ بداية التاريخ وظهور المصريين القدماء.. غير أن النكتة تزيد كلما زادت الأزمات وعصفت بالشعوب هزائم كبيرة كما حدث مع المصريين بعد الهزيمة الساحقة للجيش المصري أمام إسرائيل في عام ١٩٧٦م.” و يعود بنا عاشور إلى مرحلة زمنية أطلق عليها مرحلة عبد الناصر،..وبداية عصر النكتة السياسية فيقول:” صحيح أن عهد الملكية في مصر لم يخل من النكات والسخرية من حكم الملك فاروق لمصر..، إلا أن البداية الأكثر ظهوراً وقوة إلى حد الدراسة و الاهتمام، وتخصيص عبد الناصر ذاته؛ هيئة للاستعلامات والمخابرات الحربية والعامة لجمع ما يقال عنه من نكات حتى يقيس من خلالها فاعلية وحراك المجتمع والشعب المصري ضده وضد سياساته التي زادت من حدتها وحدة النكتة بعد هزيمة 1967 المذلة لمصر والعرب عموما.. وقتها،خصص عبد الناصر هيئات بعينها وإدارات ومخابرات لجمع كل ما يقال عنه من نكت،وخاصة تلك التي تتناول أزمات الشعب الاقتصادية وشح المواد الغذائية أبان الحرب مع إسرائيل.. تنوعت النكات وقتها للسخرية من حاشية عبد الناصر إلى الوصول إلى السخرية منه شخصيا مما دعاه إلى طلب إيقاف تلك السخرية وخاصة بعد الهزيمة المذلة عام 1967 التي تحولت فيها النكتة لأسلوب لم يقتصر على السخرية والضحك مما حدث،بقدر ما كانت تلك النكات بمثابة محاكمة من الشعب ضد رئيس وجيش مهزوم في حرب كان يردد قبل وقوعها أنه سيلقي بإسرائيل في البحر و أن جنود الجيش المصري دخلوا تل أبيب،.. بينما كانت إسرائيل قد احتلت سيناء ووصلت إلى مدن قناة السويس المصرية.. وحين آفاق الشعب المصري على وقع الهزيمة كانت النكتة ملاذه الأخير للتنفيس عما حدث. ولا زال الشعب المصري يمارس النكتة رغم الأزمات الاقتصادية المهلكة التي تعصف بمصر، لأنها نوع من التنفيس،..فحين تتوقف النكتة(التي تشبه رفع غطاء القدرة التي بداخلها ماء يغلي حتى يخرج منها البخار ولا تنفجر)فإن في أي مجتمع أو شعب ما؛.. لنكن على يقين أن هذا الشعب سينفجر عن قريب في وجه من يحكمه،و لا محالة من هكذا انفجار”. حين يشتدّ الضيق... أما الناقد و الأكاديمي المغربي سليمان الحقيوي فيعتبر أنه :” لا يجب أن ننظر إلى النكتة في المجتمعات العربيةكتعليق على واقع موبوء، بل هي، في عمقها، فعل رمزي مضاد، فعل مقاومة في يد الشعوب، إنها تهكم باسم القهر، وتحوّل الانكسار اليومي إلى فُكاهة، لا لتنسي، بل لتشير بأصبعها الصغيرة إلى ما هو أكبر من القدرة على التصريح. إنها الشكل الأكثر اقتصادًا للغضب، والأكثر رهافة للرفض، والمفارقة أنها لا تصرخ، بل تهمس. ولا تجرّح، بل تضحك.” و يواصل قائلا :”النكتة في السياقات التي يتم تداولها فيها لا تأتي كتعبير عبثي، بل كقراءة لواقع منهار ترى أنّها –أي النكتة- أنسب طريقة للتعبير؛ خصوصا في اللحظات التي يتراكم فيها الغضب والعجز، وتضيق فيها اللغة الرسمية عن قول ما ينبغي أن يُقال. في لحظة الانسداد، وحين تتوقف المؤسسات عن منح المعنى، وحين تُخطف الكلمات من الصحف والمنابر، تعود الجملة الساخرة لتؤدي مهمة بدائية: أن تُبقي الوعي يقظًا ولو بضحكة.” و يوضح:” في المجتمعات التي جرّبت القهر بأشكاله، من التضييق السياسي، إلى البؤس الاقتصادي، إلى الانهيار القيمي، تخرج النكتة كنوع من التنفّس الجماعي. ليس لأنها تحلّ المشكلة، بل لأنها تقول، على نحوٍ ساخر، إننا نراها. إنها تصريح شعبي ضمني بأن الناس ما زالوا يفهمون، وما زالوا ينتجون خطابهم الخاص خارج لغة المؤتمرات وخطب الوزراء.النكتة هنا ليست سلوكًا ترفيهيًا، بل لحظة ثقافية مكتملة، تتكلم فيها الجماعة بلغتها السرّية. وما يجعلها قابلة للانتشار، هو ذلك التواطؤ الجمعي الذي يفهم الإشارة قبل أن تُقال. نكتة واحدة تتداولها الطبقات المسحوقة كأنها نشيد سرّي، أو شيفرة يعرفها الجميع، لكن لا أحد يوقّعها”. و يضيف:”في زمن الأزمة، تكفّ الحقائق عن كونها واضحة، وتصبح ملتبسة، وتخضع للتأويل أو التزييف. وحدها النكتة تُبقي شيئًا من البصيرة مشتعلاً، تُخفي الشكوى في طيات المزاح، وتمنح الخيال الشعبي قدرة على اختراق حجب السلطة. إنها لا تكتفي بوصف الواقع، بل تخلخله. فحين يصبح الطابور مشهدًا يوميًا، تخرج النكتة لتعيد تأطيره: الطابور ليس فقط دليلَ العجز، بل فرصة للسخرية من نظام يجعل الحياة صفًّا طويلًا نحو اللاشيء. ويختتم الناقد والأكاديمي المغربي مشاركته، بالقول : “ تنتصر النكتة لأن لا أحد يستطيع اعتقالها. تسكن في الجملة العابرة، في المثل الشعبي المعاد تدويره، في تعليق على صورة، أو مفارقة في مشهد إخباري. لا تحتاج إلى توقيع، ولا إلى إذن نشر، لكنها تعيش، وتنتشر، وتُعيد إنتاج ذاتها مع كل انهيار جديد”. حسب رأيه. النكات في السينما نقطة الالتقاء بين الواقع و الخيال من جانبها، تؤكد الناقدة و الأكاديميةالتونسية سعاد الزريبي :”إن الضحك والسخرية والهجاء والكوميديا مفاهيم تتقارب وتلتقي في نقطة واحدة وهي الانفعال. يرتبط الضحك بالانفعال، وهو شعور حيوي،نشيط نابع من استهجان موقف، أو مشهد، أو حدث غريب ومغاير للأحداث والمواقف الرسمية واليومية. يعرف هنري برغسون في كتابه(الضحك)هذا المفهوم في ثلاث نقاط أساسية: الضحك انفعال بشري، أي أنه يخص البشر وحدهم، فلا يصح القول أن الحيوانات أو النباتات تضحك، فهو شعور يرتبط بالوعي.ثانيا الضحك يشترط الأهلية العقلية، فالمجنون يضحك، ولكن على أي حدث أو موقف. ثالثا للضحك وظيفة اجتماعية.يقول هنري برغسون “لفهم الضحك، علينا إعادته إلى بيئته الطبيعية، وهو المجتمع، وقبل كل شيء، علينا تحديد فائدته الاجتماعية”. و توضح الزريبي : “أنه إذا اهتممنا بالسخرية والضحك في عالم السينما:فإننا نذكر مباشرة الممثل البارع وملك الكوميديا السوداء شارلي شابلن -الذي يعرف الضحك-ب”أنه الميلان الخفيف الذي نميزه، فيما يبدو، عن السلوك العادي. إن الفكاهة تسمح لنا بأن نرى ما هو غير عقلاني الذي يبدو عقلانيا. إنه يعزز أيضا غريزة البقاء لدينا، ويحفظ صحتنا العقلية.بفضل الفكاهة تصبح روحنا تحت تقلبات الحياة أقل حدة. إنها تنمي حس النّسب لدينا وتكشف لنا أن العبث يجول دائما خلف صرامة مبالغ فيها”- فدون أن ينطق بكلمة استطاع شابلن أن يحوّل فيلمه(العصور الحديثة)إلى مادة مثيرة للسخرية والضحك ليبقى شابلن الأسطورة الكوميدية،حيث أسس لفلسفة في الإضحاك، واستطاع نقل مشاعر المهمشين والمقصيين، بعد الحروب والويلات التي عاشها العالم الغربي الحديث خلال الحربيين العالميتين الأولى والثانية.وظلت الأزمات السياسية والاجتماعية لحمة الصورة السينمائية الفكاهية وعمودها الذي تأسست عليه فلسفتها النقدية والثورية تجاه الأحداث والوضعيات”. و تضيف الزريبي:” في السينما المصرية،أخذت السخرية دورا نقديا شرسا في أفلام إسماعيل ياسين، ملك الكوميديا في زمن الأبيض والأسود،ومن أبرز أفلامه الفكاهية النقدية الساخرة: إسماعيل ياسين في مستشفى المجانيين 1958 ،العتبة الخضراء 1959 ،إسماعيل ياسين في البوليس السري 1959م .وهي أفلام ساخرة من المجتمع والجهل، والطمع والتفاوت الطبقي والبيروقراطية والفوضى والفساد. تدخل أفلام إسماعيل ياسين تحت مظلة الكوميديا السوداء، وهو ما سار فيه الكثير من الممثلين المصريين؛ كعادل إمام،الذي نجح في توزيع رسائل لاذعة للحكومة وللدولة والمؤسسات والأفراد والمجتمع،تهكما ونقدا وسخرية، تصل إلى حد الهجاء البصري.أما محمد هنيدي،فقد عبر من خلال الكوميديا عن شدة الفوارق الاجتماعية وخاصة في فيلمه: هيندي في جامعة أمريكية. وتختم الناقدة والأكاديمية التونسية سعاد الزريبي مشاركتها بقولها: “ في النهاية :”يبقى شارلي شابلن، غربا،وإسماعيل ياسين، شرقا، وغيرهم من الممثلين الفكاهيين، والكثير من المخرجين السينمائيين الذين اختاروا السير في منهاج الضحك والسخرية من أجل نقد المجتمع وفضح سلوكيات أفراده والكشف عن قبح سياسات حكوماته . لتبقى السخرية من الأساليب الفنية المرحة والمرنة من أجل نقد سياسات الدول، خاصة في فترات الحكم الاستبدادي، أو في فترات الانفلات السياسي والفوضى الاجتماعية” حسب الناقدة سعاد الزريبي . النكتة كقوّة ناعمة المنتج و الإعلامي الأردني طارق أبو لغدفيقول : “تسود النكتة عندما تعصف الأزمات بالشعوب لأسباب نفسية واجتماعية وثقافية معقدة، فهي ليست مجرد وسيلة للضحك، بل أداة مقاومة وتنفيس وتواصل جماعي في وجه المعاناة. في أوقات الأزمات، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، يشعر الإنسان بالضعف وقلة الحيلة، وتصبح النكتة إحدى الطرق القليلة المتاحة له ليعبّر عن رأيه ويقاوم الواقع القاسي بطريقة رمزية وآمنة. و يعطي أبو لغد تفسيراً لهذه الأسباب حيث يؤكد أنه من الناحية النفسية،” تلعب النكتة دوراً مهماً في التخفيف من التوتر والقلق. فعندما يعيش الإنسان في حالة من الضغط المستمر، يكون بحاجة إلى متنفس. الضحك الناتج عن النكتة يفرز في الجسم هرمونات تساعد على الاسترخاء والشعور المؤقت بالراحة، كالإندورفين. من خلال النكتة، يتمكن الأفراد من النظر إلى مصائبهم من زاوية ساخرة، ما يعطيهم إحساسًا بالسيطرة، حتى وإن كانت تلك السيطرة رمزية”. و يضيف أنه من :” الناحية الاجتماعية، فإن النكتة تصبح وسيلة تواصل جماعي، تخلق شعوراً بالتضامن والانتماء. فعندما يتبادل الناس النكات عن أزمة يعيشونها جميعاً، فإنهم يتشاركون الألم ذاته بطريقة تهون المصيبة. النكتة هنا تصبح بمثابة “لغة داخلية” بين أفراد المجتمع، تُستخدم لفهم الواقع المشترك وتجاوز مشقاته. لهذا السبب، تنتشر النكات بسرعة كبيرة في الأزمات، وخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، لأنها تعبّر عن همّ عام بطريقة خفيفة ومقبولة. و يكمل “: ثقافياً، للمجتمعات العربية بشكل خاص تاريخ طويل مع استخدام النكتة كأداة نقدية غير مباشرة للسلطة. في ظل الرقابة أو الخوف من العقاب، يلجأ الناس إلى التهكم والسخرية كوسيلة للتعبير عن آرائهم دون أن يواجهوا عواقب مباشرة. في الأزمات، تتسع هذه الفجوة بين الناس والسلطات، فتزداد النكات السياسية والاجتماعية التي تنتقد الوضع القائم، وتسخر من المسؤولين، وتُسقِط على الواقع بلغة مبطّنة تُضحك وتحرض في الوقت ذاته”. فالنكتة أيضاً تكشف عن عمق وعي الشعوب. فهي ليست عشوائية، بل غالباً ما تكون ذكية ودقيقة في تشخيص المشكلة، حتى لو جاءت في قالب بسيط. هذا ما يجعل النكتة في الأزمات شكلاً من أشكال “الحكمة الشعبية”، التي تعبّر عن وعي جمعي لا يُستهان به. ويمكن القول إن النكتة في الأزمات ليست هروباً من الواقع، بل مواجهة ذكية له. إنها شكل من أشكال الصمود، واستخدام للفكاهة كسلاح سلمي في وجه القهر، ومحاولة للحفاظ على التوازن النفسي والجماعي وسط الفوضى. لذا، لا عجب أن نرى في أحلك اللحظات أكثر النكات طرافة، فهي مرآة لوجع الشعوب، وسلاحها الأخير في وجه الألم حسب تعبيره. النكتة كأداة فعّالة للتواصل و التجاوز أما الباحث التونسي في علم الاجتماع رياض سكمة، فيقول : “يزداد الإقبال على إنتاج النكتة واستهلاكها عند اشتداد الأزمات، لأن النكتة هي: “محاولة قهر القهر،وهي هتاف الصامت ونزوة المكبوت والبوح بالمسكوت عنه” ولأن الضحك، على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون، في كتابه القيم “الضحك”: “ يحلّ معضلة إنسانية عويصة... وأحد أهم شروطه؛ تناول الحدث بقدر من اللامبالاة”. وفي تعليقه على استنتاجات برغسون حول الضحك قال عباس محمود العقاد في مقال عنوانه “فلسفة الضحك”:”الحزن نقيض السرور ولكنه ليس بنقيض الضحك؛ وقد يحزن الحيوان الأعجم ولكنه لا يضحك أبداً ولا يستطيع أن يضحك، إذ أن الضحك خلة إنسانية ملازمة للعقل والضمير. ويقال: ولا غرابة في أن يُعرَّف الإنسان بالضحك كما يُعرَّف بالمنطق والتمييز، لأن المنطق هو الذي يجعلنا نضحك، وكل عمل مضحك فهو في حقيقته منطق ناقص أو قضية يختل فيها القياس والترتيب”. و يواصل سكمة مشاركته بالقول:”يلجأ الإنسان إلى الهزل وقت الأزمات،حسب هربرت سبنسر، لأن الضحك في تقديره هو “محاولة عضلية للتخلص من شعور حزين أو غير محتمل، وحسب امانويل كانط: “ينشأ الضحك من انتظار ينتهي فجأة دون جدوى،” أما سيجموند فرويد فقال في هذا الخصوص في كتابه “النكتة وعلاقتها باللاوعي”: “الفكاهة هي واحدة من أرقى الإنجازات النفسية للإنسان، تصدر من آلية نفسية دفاعية في مواجهة العالم الخارجي المهدد للذات الداخلية.... والضحك هو وسيلة لتفريغ الطاقة العصبية المكبوتة، ومحاولة لمواجهة القهر والكبت.... والنكتة هي نافذة أو وسيلة تنفيس وتفريغ للشحنات الانفعالية وضغوطات الحياة المكبوتة، ولسان حال الأفراد والشعوب في حالات الكبت السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصادي.” ومن جهة فنية فيعتبر باحثنا أن النكتة هي: “تقنية لغوية بالغة التكثيف والسخرية، شديدة النفاذ بمضامينها المركزة التي تغني الواحدة منها عن مقال كامل أو حديث مسهب.” و يرى أن النكتة تنتشر: “عندما يتوفر الاجتماع ويضعف عامل التحفظ، ويحتاج إلى تلطيف الجو. ومع أن مواقع التواصل الاجتماعي متأخرة في الظهور، إلا أنها من أوسع مصادر النكتة الشعبية لكونها متوفرة لدى سائر شرائح المجتمع بمختلف مستوياتهم واهتماماتهم، ثم هي مرتبطة بالهاتف الذكي، وهو جهاز شخصي لا يكاد يفارق صاحبه. ويأخذ من وقته الكثير.” و يضيف سكمة : “إن النكتة هي أداة من أدوات التواصل الاجتماعي المهمة في عملية الاندماج،ووسلية ناجعة للتقارب بين الأفراد وتمتين أواصر الصداقة. فهي تمكّن من رفع التكلف وإذابة الجليد بين الأفراد والذي نسميه في تونس “بكسر حرف الياجورة”، فسرد نكات تتماشى مع قناعات الطرف أو الأطراف المقابلة، ومع مستواها الثقافي ووعيها السياسي ومعجمها اللغوي وقراءتها للأحداث ومآلها؛يؤدي في معظم الأحيان إلى مزيد من التقارب والتحابب. فسرد النكتة إذن يستهدف الإضحاك في قمة المأساة أو المعاناة أو الشعور بالظلم والقهر، و يختم سكمة قوله عن ظاهرة تنامي الهزل عند الأزمات:” لم أجد أفضل من هذين البيتين لشاعر إرادة الحياة (أبو القاسم الشابي) لألخص كل ما دار في ذهني، وأنا أتناول هذه المسألة بالتحليل: خُذِ الحَيَاةَ كما جاءتْكَ مبتسماً في كفِّها الغارُ أَو في كفِّها العَدَمُ وارقصْ على الوردِ والأَشواكِ متَّئِداً غنَّتْ لكَ الطَّيرُ أَو غنَّتْ لكَ الرُّجُمُ.” رأس مال ثقافي وفي نفس الإطار؛ تقول الأكاديمية التونسية لطيفة التيجوري :” إلى جانب ما تتمتع به النكتة من البساطة اللغوية وثراء المعنى، فهي صياغة بالأساس لعقل جمعي، وصياغة لرموز موجودة، لكنها موجودة في مشترك جمعي مجهول (ربما مثل حكايات جحا التي يعرفها كل الناس في مختلف المجتمعات،وفي عديد الأزمنة باختلاف لغاتهم) لكن تجد هذا المشترك يجمع ما بينهم.هذا الموقف الجمعي هو بالضرورة الذي يترجم رؤية جمعية لتصور ذهني مشترك حول الواقع أو حول هؤلاء الأشخاص التي بنيت عنهم النكتة.” و تختم الناقدة والأكاديمية التونسية لطيفة التيجوري مشاركتها، قائلةً :” يتم استنساخ النكتة بحيث يمكن أن تكون في مجال حياة اجتماعية لتتحول إلى تعليق على واقع اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي معين، ويتبناها الأفراد حين يجدونها حاضرة و سابقة للمجتمع، لكن يعاد إنتاجها حسب الخصوصيات التي تتواجد فيها باختلاف الفضاءات أيضاً.فهناك دراسات تشير إلى أن الفضاءات الأكثر التي تنتشر فيها النكتة،هي الأمكنة العامة مثل، المقاهي و.. الأسواق.و ربما لتواجد النكات أكثر في المقاهي يدل على أن الإنسان حين يكون في فترة من الراحة شرطا من شروط إنتاج النكتة التي من آثارها أن تضفي الراحة النفسية ،كما نجد أن ا لسوق ربما يدل في الدراسات الأنتروبولوجية على المعيش اليومي للمجتمعات ،.و حتى المؤرخون في دراساتهم للمجتمعات فإنهم يصفون الحياة و العلاقات الاجتماعية كعلاقات الصراع، وعلاقات الخصام، وعلاقات التوافق، ويحيلون إلى السوق كمنتج لهذه العلاقات التي تساعد في إعادة إنتاج النكتة.” و يمكن أن تثير النكتة اهتمام الباحث السوسيولوجي والانتروبولوجي وكذلك الباحث في علم النفس، وحتى العلوم السياسية والعلوم الاجتماعية بصفة عامة، باعتبار أنالنكتةتعطينا اتجاهات الأفراد ومواقفهم و طريقة فهمهم و تحليلهم للمواقف، والنكتة أيضاتعطينا فكرة عما إذا كنا نحفر حفرا أركيولوجيا في المخيال الشعبي الحمال لهذه النكتة باعتبارها حاملا لرصيد لغوي كبير جدا، وكذلك حاملا لرأس مال ثقافي يحيلنا على العلاقات الاجتماعية “ حسب تعبيرها. موقف طريف و متناقض من وجهة نظره،يعتبر التشكيلي السوري سهيل بدور أن: “ فن الكاريكاتير غالبا ليس نكتة، بل هو انتقاد مباشر بشكل ساخر، فهو كتمثيل هزلي يعني ليس من أهدافه الإضحاك،بل تقديم موقف وصارخ وناقد. فالكاريكاتير، عبر التاريخ،كان له دور فاعل في المسائل الحياتية، وخاصة السياسية،حيث هناك أعمال كاريكاتير تر كت أثراً في المجتمع السياسي حيث امتعض منها الكثير من الحكام. لذلك أعتقد أن الكاريكاتير فن له قيمة اجتماعية كبيرة. و هو فن ناقم ومشاكس يتجاوز السخرية والنقد والتعليمات.” و يواصل بدور:” للعلم ليس هناك ضرورة أن يكون رسام الكاريكاتير خفيف الظل فقد يكون “ سمجاً “ لكنه جاد ومتأمل جيداحتى يختصر ما يراه ويقدمه بموقف عبر خطوطه وأفكاره. أما بخصوص النكتة فيقول بدور:” كما هو معروف هي لفظة للفكاهة والإضحاك والمزاح الشعبي.هذا بالمجمل، أيضا تحمل النكتة موقف الكثير من االناس، لكن الكاريكاتير فن قائم بذاته،لأن الكاريكاتير أقوى ولأنه له تنويعات كثيرة.وهو حضور أقوى من النكتة.” قد ينتشر الكاريكاتير في العالم،بينما النكتة لا تنتشر إلا في محيطها. فالكاريكاتير دائما كان حاضراً للتحريض وقادراً عليه،في كثير من الأحيان، وأحيانا هناك مزج بين النكتة والكاريكاتير لتفضي الى موقف طريف ومتناقض. فإذا كان فن الكاريكاتير فناً يستلزم الكثير من الخبرة والكثير من الدربة الكثير من التمحيص والتدقيق في الحياة في مجملها. والغوص في النكتة و تفكيكها يستلزم استلهام بعض المواقفو استحضارها في فن الكاريكاتير . كفن فإن النكتة هي أدب شعبي بالمطلق و كل ما طفت على السطح بعض من المشاكل الاجتماعية أو السياسية أو الإنسانية كلما ساعد ذلك في حضورها.