المشجب

تكاثرت .. حامت .. ثمّ هبطت واحدة تلو الأخرى ، في عدّة شهور صبغت أوقاتي وأحالت لونها ، وعندما أهمّ بدفع آخراها تنقضّ أولاها بحقد كي أرفع إرادتي الصادّة عنها لتتكوّم مع سابقاتها ، همّ يجلبُ همّاً ومشكلة ترخي ذيولها لتقبض عليه مشكلة بدأت بوادرها في التشكّل ، الصدر غصّ واكتظّ ولم يعد ثمّة فرجة لأخرى . عراك وتدافع ، كل ساخطة تقتات على دمي ، فترشف دماً قانياً وتبصقه أسود محترقاً في أوردتي . سرتُ أبحث عن ملاذ خفيّ أقذف به ما تقادم من وعثاء الهموم وصديد متعفّن في صدري ، قاتل الله الذاكرة إذ بقدر ما تنجيني فإنها ترهقني أيضاً ، أيقنتُ أنّه لا طريق يمكن أن أنجو به من هول أحداث هذه الأيّام إلا باستدعاء أيّام أخرى أنصع وأرهف ، فاندفعتْ قدماي نحو المكان الراسخ أبداً في سويداء القلب وصميمه . وقفتُ أمام الباب لحظات صمت مقدّسة ، استنطقته علّه يتذكّر ، ملامحه الأولى لم تتغيّر ، ونقشته القديمة بتحوراتها التي لا تختلف كثيراً عن تحورات نفسي وانعطافاتها ، بدت لي لذّة اللحظات فلم أتهور وأندفع دون أن أرتوي من فيض النظر وما تقوله الأشياء ، إذ كانت تحكي وتحكي وتبثّني حزناً وفرحاً ونشوةً وشوقاً ثمّ عتباً ، مددتُ كفّي أمسح نتؤات الحديد وتعرجاته ، وأوغل في تتبع الزوايا الخفيّة القاصية ففي شقوقها تندسّ لحظات الشوق ورنين الحكايات قبل أن تندفع إلى الخارج . طرقتُ الباب طرقات خفيفة ناعمة ، فُتح الباب ليبرز وجه مليئ بالشَعْر ، سألت عيناه ماذا أريد ، لم أُجب ، فخرج رجل باكستاني بجسد كبير ممتلئ وبيده عود خلال يمرّره بين أسنانه ثم يبصق على جنبه ويمسح فمه بباطن كفّه ويعيد السؤال الذي برزتْ به عيناه ، ماذا تريد ، أخبرته أن هذا هو بيتنا القديم ، وطلبتُ منه أن يسمح لي بالتجول داخله لنصف ساعة ونفحته بعض المال ، أشرع ذراعه بشكل مسرحي فدخلت أبحث عن شيئ .. عن كلّ شيئ ، عن بقايا رائحة أخلد إليها ، عن غبار عالق في جدار كان شاهداً على طفولة ثرّة وقلب لم تطأه كلمة غير ليّنة ، عن مشجب في غرفة أبي كان يعلق عليه أبي همومه ويُعيد صياغة نفْسه فيبدو سعيداً ويبثّنا سعادة نغترف منها ماشاءت لنا الأيّام ، كانت غرفة أبي هي مبتغاي الأوّل في هذه الزيارة ، فلو لم يغادر سريعاً وفي منتصف الطريق لما شملني كلّ هذا العناء ومرارة الأيّام ، دخلت الغرفة متوهجاً بذكرى لمعت بين عينيّ فرأيت أبي يجلس بلباسه الداخلي على طرف السرير ويسألني عن حالي ، كدتُ أسقط من طولي وأنا أفتح ذراعيّ وأهبط حاضناً الفراغ قبل أن يسندني الرجل الباكساني الذي رافقتي ، تلفّتُ في أرجاء الغرفة أبحث عن مشجب أبي ، فلهذا المجشب فعل السحر ، وما كنتُ بحاجة الآن إلا له ، عدتُ لأرى الغرفة خالية إلا من رجل متدثّر ببطانية صفراء ينام في طرف الغرفة ، لعقتُ جدران الغرفة بقلبي متلمّظاً طعم الأيّام الصغيرة الراقصة شاكياً لها ما فعلت بي أبناؤها ، لحظتْ دهشة الرجل الباكستاني الواقف بجانب باب الغرفة وكأنّه يتهمني بالجنون ، لا يهم ، فأنا في غارق في لحظات نادرة أجترّها من مكامنها ورقادها في زمن قصي ، خرجتُ إلى الصالة التي كانت مسرح شغبنا ولهونا ، لقد انكمشت ، حتى أنكرتها ذاكرتي التي تراها كبيرة ممتدّة إمتداد سعادتنا ، الأمكنة لا تتغيّر لكن شعوري تغيّر كثيراً . أغمضتُ عيني لأستجلب أصواتاً حميمة ورائحة أخّاذة لا يزال عبقها يدهش ذاكرتي ولا يغادرها ، أطلتُ في استغراقي حتى كاد الرجل الباكستاني يخرجني عنوة من بين زحام أطياف تهطل من أعماق ذاكرتي ويطردني من بيتي لولا أن دسستُ في يده المزيد من المال . هل ارتويت سألت نفْسي ؟ هل علّقت ما اكتنزه صدري من سخام الأحداث على مشجب أبي ؟