سحّارة الغذّامي وصندوق المازني.

لطالما نظر الناس بعين الدهشة منذ القِدم إلى تلك الملَكة السحرية لدى الشُّعراء والأُدباء والفنّانين وغيرهم من المُبدعين، التي مكّنتهم من الإتيان بروائعهم الأدبية والفنية، وتساءلوا عن سِرّ تلك الملَكة التي تُدعى بالخيال، وما هي العلاقة بين الخيالي والواقعي، وكيف يتشكّل الخيال؟ من المعروف أن الإنسان المُبدع بشكلٍ عام هو إنسان يمتلك بصيرة ثاقبة، تٌمكّنه من النفاذ إلى أعماق الأشياء التي قد يمرّ بها الآخرون مرور الكرام، ويمتلك أيضاً رؤية عميقة تجعله قادراً على ملاحظة الًصّلات الخفية بين الأشياء، إن كانت في الطبيعة أم في الحياة الاجتماعية للمُحيطين به وخلال حياته اليومية العادية. فيقوم المُبدع بالتقاط الكثير من الصّوَر الحِسّية، وملاحظة الشخصيات والمواقف المحيطة به، وتسجيل عدد لا يُحصى من الذكريات والانطباعات.. حيث يُشكّل هذا المخزون الهائل من تلك الصّوَر المادّة الأولية للخيال، وما يفعله المُبدع عندما يقوم بالتخيّل هو إعادة تمثُّل هذه الصّوَر واسترجاعها، وإعادة تشكيلها وابتكارها من جديد، ليُخرج لنا مُنتَجاً إبداعياً جديداً. وفي عالَم الأدب لا يُمكن للأديب أن يُنجز روائعه من دون الخيال، فهو الذي يصنع تصوّرات عمله الأدبي قبل البدء بكتابته، ويفتح له الآفاق، كما أنه يُسهم في تشييد عِمارة النّص وبثّ الروح فيه. و»الخيال في الأعمال السردية هو سيّد الموقف»، كما يقول «ميلان كونديرا»، وكلّ عمل روائي هو بالضرورة عمل خيالي، وإلا أصبح تاريخاً، بحيث يكون الخيال هو المسؤول عن خلق أحداث وشخصيات ومواقف موازية لتلك الموجودة في الواقع أو مُستمدّة منه. وقد ألّف الدكتور «طه حسين» كتابه الجميل «مرآة الضمير الحديث»، بناءً على «مُخيّلة» طريفة، حيث نسب الكتاب إلى «الجاحظ»، وجعل صاحبه يأتي إليه فرِحاً وبين يديه كتاب مخطوط لم تعرفه المطبعة بعد، ظفِر به عند بعض الورّاقين، وفيه رسائل للجاحظ وغير الجاحظ. ويدخل المؤلّف مع صاحبه في مُجادلة قصيرة، يُبيحان فيها صنيع مُخيّلتهما؛ إذ ينسبان إلى الجاحظ ما لا يقله! وقد ألّف أستاذنا الدكتور «عبدالله الغذّامي» كتاباً بعنوان «حكاية سحّارة»، والسحّارة: صندوق كبير من خشب السنديان، مُرصّع بقِطعٍ نُحاسية مُدوّرة، ومزلاجه الذهبي يصرّ في يد صاحبه كلّما هَمّ بفتحه، وتُستعمل السّحارة قديماً في الغالب لحفظ الحوائج، والمُهمّ من الأوراق والمستندات، وتُحفظ في غرفة المنام. وقد ذكر المؤلّف في مُقدّمة الكتاب، أنه مثلما أن طه حسين عثر على تلك المُخيّلة الطريفة، فإنه قد وجد نفسه أمام مُخيّلة فيها بعض الشبه مع مخطوطة طه حسين، ويقول: «وفي هذه المُخيّلة عثرتُ على سحّارة قديمة، وجدتُ فيها مطويات من الأوراق القديمة والمخطوطات، وشرعتُ أنظر فيها وأُقلّب في صفحاتها، فوجدتُ فيها طرائف من الكتابات وبعض المدونّات والملاحظات، التي كان صاحبها يكتبها ثم يُلقيها في سحّارته هذه». ثم يقول: «منذ أن وقفتُ على باب «تكاذيب الأعراب»، الذي عقدهُ أبو العباس المبرّد في كتابه «الكامل»، وأنا مُغرمٌ بهذا الفنّ، وإني لأرى أن هذا فنٌّ مُهمّ من فنون الآداب العربية، يحسُن بنا أن نُعيد إليه الاعتبار.. وأنا هنا أكتب هذه الحكايات من باب حنين الروح إلى أصلها البدويّ، فأُمارس تكاذيب الأعراب في هذه الحكاوي». ويُمكن لنا في هذا السياق أن نرحل إلى عالم الإبداع الشعبي، حيث سنجد كمّاً كبيراً من التكاذيب، الذي تمثّل في إنتاجٍ غزير مليء بالخيال والفانتازي، أبدعته الذاكرة الشعبية؛ يأتي في مُقدّمتها كتاب «ألف ليلة وليلة» الذي يُعنبر من كلاسيكيات الآداب العالمية، وإلى جانب ذلك تأتي السّيَر الشعبية أمثال «حمزة البهلوان» و»الأميرة ذات الهِمّة» و»الظاهر بيبرس» و»عنترة».. وغيرها. ولعل إيراد جُزء قصير من إحدى حكايات كتاب «حكاية سحّارة»، يعطي للقاريء صورة جمالية للإبداع الذي تميّز به الكاتب والكتاب: تدور بعض أحداث «حكاية المُعلّم مسعود»، التي تُروى على لسان هذا المُعلّم، بعودته إلى المدرسة بعد الإجازة الصيفية، ودخوله مُباشرةً إلى قاعة الفصل، وطلبهِ من التلاميذ كتابة موضوع التعبير عن مُشاهداتهم خلال الإجازة.. ويقول: «جلستُ أراقب الأنامل الصغيرة وهي تخُطّ وتمحو على الورقات، وكأن كلّ شيء في الفصل يمرّ بشكلٍ عادي غير شيءٍ واحد فحسب، وذلك هو وجه التلميذ المُهذّب جِدّاً والذّكي جِدّاً «سمير»، حيث وجدته يكتب بانفعالٍ شديد عن منظر «بُحيرةٍ» تحت جسر «العروبة»، وسط «شارع «التخصّصي»! وهُنا تحرّكتْ كلّ حواسّي الإنسانية والتربوية، فأخذتُ سمير إلى طرف الفصل، وهمستُ في أُذنه قائلاً: «يا بُنيّ، هُناك أشياءٌ يحسُن بنا ألّا نكشفها للناس، إنها قصصنا الخاصّة وفلذات أرواحنا، مما لا يُصدّقه سِوانا.. إنها من المضنون به على غير أهله». أما الكاتب الساخر «إبراهيم عبدالقادر المازني»، فيقول عن الخيال في كتابه «حصاد الهشيم»: «أن الخيال السليم هو الخيال الذي يؤلّف بين العناصر المختلفة، ليخلق شيئاً جديداً». وقد ألّف المازني كتاباً بعنوان «صندوق الدنيا»، يضُمّ عدّة مقالات، ومُقدّمة بديعة يشرح فيها سبب تسمية كتابه بصندوق الدنيا، فقد كان في طفولته مشدوداً إلى صندوق خشبيّ يحمله رجلٌ عجوز على كتفيه، ويدعو الناس والأطفال بخاصّة إلى الاستمتاع بمُشاهدة ما بداخل الصندوق من أعاجيب الدنيا وغرائبها، مُقابل ملاليم زهيدة. ومن تلك الأعاجيب الخيالية صُوَر مُتحرّكة لعنترة بن شدّاد والزير سالم وسيف بن ذي يزن.. إلى آخر ما كان يستهوي أفئدة الكبار والصغار ويُداعب خيالاتهم، في ذلك الزمن، حيث لم يكن قد ظهرتْ فيه السينما أو التلفزيون؛ والتي أصبحت أعجب صناديق الدنيا كلّها. ولا ينعدم وجه الشّبه بين محتويات صندوق الدنيا ومحتويات كتاب المازني، فقد جمع فيه المؤلّف صُوَراً طريفة وحوارات مُتخيّلة من حياته وحياة مُعاصريه، ونماذج من المُشكلات والقضايا الواقعية والخيالية، ووضعها في هذا الكتاب، الذي يشبه صندوق ذلك العجوز العجيب، الذي يطوف به الحارات والميادين. ولعلنا نكتفي بإشارة عابرة إلى جزء قصير من إحدى مقالاته، لتوضيح طبيعة هذا الكتاب الظريف: ففي مقالة بعنوان»رجل ساذج»، كتب المازني: «كان لنا -ونحن شُبّان- رجلٌ ساذج لم يعرف سوانا، وكأنما قد هبط علينا من السماء، وكان من صفاته أنه يخشى من ركوب الماء، ويجزع من اضطراب الزورق أثناء إبحارنا على متنه، كلّما ذهبنا في نٌزهة نهرية. وأنشدتُ هذا الرجل أبياتاً من قصيدة «ابن الرومي»، التي يصف فيها ما لقي في البحر من التباريح والمخاوف، فلما بلغت قول الشاعر: فأيسرُ إشفاقي من الماءِ أنّني أمُرُّ به في الكوزِ مرَّ المُجانبِ وأخشى الرّدى منه على كلّ شاربٍ فكيف بأمنيه على نفسِ راكبِ فصفّق صاحبنا وتحمّس، وقال: «إن هذا رجلٌ عاقل». وبعد أيامٍ انتحى بي ناحيةً، وسألني: «أتعرف ابن الرومي»؟ فلم أعجب لسؤاله، وقُلتُ: «نعم»، فقال» «أرجو منك أن تُعرّفني به». فقدّمته إلى شيخٍ وقور كثّ اللّحية، إلا أنه سريع الغضب.. فخرج صاحبنا من مجلسه، وقد أصابته عُكّازة الشيخ على رأسه ورُكبته، وكانت إصابة الرُّكبة أوجع، فظلّ يظلَع أياماً، وسألته بعدها عن ابن الرومي، وكيف وجده؟ فكاد الدمع يطفر من عينيه، وقال في سذاجةٍ مُحبّبة: «الحقُّ عليّ.. إن التهجُّم على كبار الناس سوء أدب»! ويستمر «المازني في سرد أحداث هذه القصّة، وغيرها من القصص بطريقة تختلط فيها السُّخرية بالطرافة والخيال، ويلاحَظ أنه قد تتلمذ طويلاً على كتابات الجاحظ الساخرة، وكان على صِلة وثيقة بأسلوبه، والذي كان إماماً لهذا النوع من الكتابة النابضة بالمُتعة والطرافة والخيال.