
هل ما نراه جميلًا يعكسنا… أم يصنعنا؟ في إحدى أمسيات الأندلس، جلس رجل تحت قنديلٍ زيتي، يتأمل حروف ابن حزم التي تتسلل من بين السطور كوشوشة قلب. إلى جواره، تعزف جارية على العود نغمةً خفيفة، لا تطغى على الكلمة بل تحتضنها. لم يكن هناك ضجيج، فقط همسٌ أقرب للعبادة. الحروف كانت تُرتّل، والنغم يُقطف كما تُقطف زهرة خجولة من بستانٍ نادر. الجمال لم يكن يُشرح أو يُفسّر… بل يُعاش. بعد قرون، في مدينة تُضاء بشاشات لا تنام، تجلس فتاة على رصيف، تحدّق في هاتفها. تمر أمام عينيها عشرات المشاهد خلال دقيقة: ضحكات، وصفات، موسيقى، راقصون، صرخات… ثم تطفئ الشاشة بصمت. شيء ما ينقص هذا الزخم. تتساءل داخليًا: لماذا لا يلمسني شيء؟ لماذا لا يعبر الجمال إليّ، بل يمرّ بي ويواصل طريقه؟ بين ذاك المجلس وتلك الشاشة، تمتدّ رحلة الذوق العربي… من صوتٍ يُحفَظ، إلى صورة تُنسى؛ من سؤال المعنى، إلى مطاردة المشهد؛ ومن التلقي العميق البطيء، إلى التمرير السريع بلا أثر. تحوّلت الذائقة من فن الإنصات إلى عادة التمرير. الذائقة ليست مجرد ما نحب، بل هي انعكاس لما نحن عليه، وما سمحنا له أن يُشكّل وعينا. إنها مرآة داخلية تُظهر كيف نرى العالم، وكيف نرى أنفسنا في انعكاسات الجمال. ذوقك ليس “مزاجًا عابرًا”، بل هو بصمةٌ لا تُرى، لكنها تقول كل شيء عنك. وفي كل عصر، تتكثف الذائقة الجماعية كمحصلة لِما قرأناه، وعشناه، وتذوقناه، وبكينا عليه. الجمال لا يأتي من فراغ. إنه نتاج تاريخ طويل من التأثيرات: من الكتب إلى الأسواق، من المجالس إلى المناهج، من الأغنية التي سمعناها صغارًا، إلى الإعلان الذي لاحقنا على الشاشة. وحين نقول إن الذائقة تتغير، فإننا لا نتحدث عن صعود أو هبوط، بل عن تبدّل السياق الذي يُحدّد معايير الجمال. الجمال نفسه لم يتغير، بل طريقتنا في استقباله. الذائقة ليست ترفًا نخبويًّا، بل مرآةٌ لما يؤلمنا، وما يُفرحنا، وما يُشبع جوعنا الروحي. في زمنٍ ما، كانت الأندلس تمثل ذروة النضج الجمالي والحضاري. لم يكن الجمال هناك عشوائيًا، بل متناسقًا كحديقة أندلسية، موزونًا كبيت شعر، منغمًا كوتر في مجلس طرب. هناك، كان الإنسان يتذوّق المعرفة كما يتذوق رائحة وردة. يستمع لمحاورة فلسفية كأنها أنشودة، ويرى في زخرفة الخط امتدادًا لأسماء الله الحسنى. كانت الذائقة تُبنى كما تُنقش التحفة في جدار جامع قرطبة: باليد، بالقلب، وببطء يشبه الصلاة. القراءة كانت طقسًا لا عادة، والموسيقى وسيلة للتأمل لا للاستهلاك. الحواس كانت تتدرّب على الإنصات، على الفهم، على التمهّل. الجمال لم يكن لحظةً تُلتقط، بل ذاكرة تُصاغ. ثم تغيّر كل شيء. أصبحت الصورة أسرع من الفكرة، والمشهد أقوى من التأمل، والسرعة مقياسًا لا يرحم. لم يعد الجمال يُعاش، بل يُلاحَق. في عالم “السوشال ميديا”، ليست الأزمة في الأداة، بل في الوعي الذي يُنتج ويستهلك. صرنا نُعيد تشكيل ذائقتنا وفق ما هو “رائج” لا ما هو “راقي”. أصبحنا نضحك دون تأمل، نحزن دون وعي، ونعجب دون أن نسأل: لماذا؟ نُفضّل الفيديو القصير على النص الطويل، والصورة المشبعة بالألوان على التأمل الرمادي، والاقتباس السريع على السؤال الطويل. ومع ذلك، هناك من يقاوم. ثمة مبدعون يرون في الأدوات الحديثة جسورًا لا بدائل. يحاولون أن يمرّوا من خلال الضجيج إلى العمق، أن يُعيدوا ترتيب الحواس في عالمٍ اختلطت فيه الأصوات والصور والأنفاس. فهل نحن ضحايا لهذا العصر؟ أم ضحايا لتنازلنا عن تدريب حواسنا؟ في الطفولة، كانت الحكاية تُربّي الذوق، ثم جاء الإعلام، والمدرسة، والمجتمع. أما اليوم، فتفتّت هذا البناء. الأسرة لم تعد المرجع، والمدرسة تئن، والإعلام يغرق في الشعبوية… والفرد يقف وحيدًا أمام سيلٍ لا يُمهله أن يختار. الذائقة تُدرَّب كما تُدرّب العضلات: بالتمرين، بالسؤال، بالمراجعة. لماذا أعجبني هذا؟ ولماذا لا يُحرّكني ذاك؟ الجمال لا يستقر في القلب إلا إذا مهّدنا له الطريق. ولذلك، فالمسؤولية لا تقع على جهة واحدة، بل هي نسيج من العلاقات: بين الفرد والمجتمع، بين الذوق والتاريخ، بين الحواس والإرادة. نعم، نحتاج أن نُعيد ترتيب علاقتنا بالجمال. لا بالعودة إلى الماضي كأنه الفردوس المفقود، ولا برفض الحاضر كأنه جحيم، بل بأن نُعيد التوازن. أن نُبطئ قليلًا في زمن السرعة، أن نُصغي أكثر في زمن الضجيج، أن نُعيد احترام الجملة الكاملة، بعد أن تعوّدنا على الاقتباسات المبتورة. ربما نحتاج أن نقرأ القصيدة بصوتٍ عالٍ لأطفالنا، أن نروي حكاية في مجلس، أن نُشاهد فيلمًا دون هاتف، أن نصمت قليلًا بعد كل لوحة… لنعرف ما الذي قالته لنا. ربما نحتاج أن نُدرّب حواسنا من جديد: كيف نرى لا فقط نُشاهد، كيف نسمع لا فقط نُصغي، كيف نُحب لا فقط نُعجب. فالذائقة ليست كمالًا زائفًا، بل هي العمق الذي يُنقذنا من تسطيح الحياة. هي الجسر بين ما نستهلك… وما نستحق أن نشعر به حقًّا.