التَّنَمُّرُ على الحضارة الإسلامية.

إن التنمرَ في زمننا هو استعلاءٌ على الآخر واستصغار له ، وحَطٌّ من قَدْرِه،وتحقيرٌ لقيمته ، لأسباب تدبُّ في نفس المتنمر ، كزعزعة الثقة بالنفس ،وهزيمة المنافس ،وكما أن التنمر يحصل بين شخصين فهو يقع بين حضارتين أيضًا، حضارة منتصرة وحضارة مغلوبة ، يصيب النصرُ ونشوتُهُ الحضارةَ بأن تتنمر على الحضارة المغلوبة ، وهكذا لاقت الحضارة الإسلامية صنوفًا من هذا التنمر ، فمن ذلك : التنمر على لغتها العربية : هجم فئة من المتنمرين على اللغة العربية العريقة هُجوماً عَرِيضًا ، وانهالوا عليها بأنواع من التُّهَمِ، مُدَّعين ادعاءاتٍ باطلةً ،محاولينَ إِظْهَار عُيوبِ العربية ، متناسين محَاسنها ،ومتغاضين عن قوتها الاشتقاقية وجمالها ، فهؤلاء المتنمرون إن لم يجدوا مَثْلَبةً ظاهرة تلمسوا أيَّ عيبٍ يَصِمُونَ به العربية ،فقالوا عنها : إنها لغة أدبية لا تصلح للعلم ! وإني لأعجبُ !هل الأدب عيب! وهل كان الأدب العربي ضعيفًا لتوصم به اللغة!! بينما في الحقيقة أن الأدب العربي بديع ، لاسيما الشِّعْر والسَّجْع، ولتكمل القراءة معي أيها الكريم لتتبين تهافت هذا التنمر،وحقيقة الأدب العربي. لقد فاق السَّجْع في العربية اللغات الأخرى، فضلا عن الشِّعْر ذي الوزن الدقيق و ذي القافية الصارمة، فهذا الشدياق اللغوي يقول عن السجع : “للعربية مزايا أخرى فاقت بها غيرها فضلًا وقدرًا وشأنًا وفخرًا ، منها السجع ...فمن أين لسائر اللغات مثل ما لغة العرب ،وأيها يجاريها في حلْبة الأدب، فقد فاتها هذا الأسلوب الأشرف والنوع الألطف “ و أما الشعر العربي فهو آية في دقته ، ومفخرة لغة العرب على لغات الأمم ، حيث إنه موزون وزنا دقيقًا في حركاته وسكناته على نسق واحد فانظر مثلًا لقول عمر المخزومي : هَجَرْتُ الْحَبيبَ مِنْ غَيْرِ ما اجْتَرَمْ وَقَطَّعْتُ مِنْ وُدِّي لَكِ الْحَبْلَ فَانْصَرَمْ الشطر الأول فيه ثلاث وعشرون حركةً وساكنًا والشطر الآخر فيه أيضًا ثلاث وعشرون حركة وساكنا ، وهي جارية على نسق واحد في الشطرين ، فأي ميزانٍ لفظتم به الكلام أيها العرب! ومن هنا تعلم لماذا تحدى القرآن العرب في لسانهم ،ذلك أنهم قوم فصحاء يزنون الكلام وزنًا ،ولذا يقول الشدياق أيضًا : “لعمر الله ! لو لم يكن للعربية سوى السَّجْع في المنثور وطريقة النظم على النسق المذكور لكفاها فخرًا ،فأحمد الله تعالى على أنها لغتي التي نشأت عليها وصبوت عليها “ والآن بان الصبحُ لذي عَيْنَينِ ، وتبيَّنَ لك حقيقة إبداع الأدب العربي ،وكل ما في ادعاء المتنمرين أنهم تجاهلوا أن اللغةَ مستوياتٌ ودرجاتٌ ، ففيها درجة الكتابة الأدبية وهي للشعراء والأدباء ،وفيها درجة الكتابة العلمية ،وهي لكتب العلم ،حتى ظهرت ألوانٌ من اللغات الخاصة بالعلوم كلغة الفقهاء مثلا،وأُلِّفَ فيها معاجم كالزاهر لأبي منصور الأزهري وكالمصباح المنير للفيومي ، فهؤلاء المتنمرون أَعْرَضُوا إِعْرَاضًا عن الكتابة العلمية ولفَّقُوا دَعْواهم في الأدب! وهذا غَيْض من فَيْض في تنمرهم على العربية سواء في حروفها أو كتابتها أو أصالة علومها من نحو وبلاغة ،وغير ذلك مما يطول بَسْطُهُ . ومن ذلك: التنمر على الرواية في الحضارة الإسلامية : لقد ابتكر المسلمون طريقة لحفظ الرواية والأخبار وضبطها ،ألا وهي طريقة الإسناد ،وكان الدافع لابتكار هذه الطريقة هي الحفظ على أخبار الرسول الأعظم عليه الصلاة و السلام ، نعم إن الإسناد مفخرة حضارية لأمة الإسلام ، كيف لا وهو حصن منيع لضبط الروايات ومرصد توثيقي للأخبار والروايات ، لا أعرف لأي أمة نظير هذه الطريقة ، حيث نفرَ جماعة من العلماء كالقطان وابن معين وأبي حاتم وأبي زرعة وأحمد والبخاري والمديني والدارقطني وغيرهم كثير لمعرفة أحوال الرواة من قوة حفظهم وثقتهم وسبر إتقانهم للرواية ،وإن هؤلاء العلماء أقرب ما يكونون الآن بلجان متخصصة ومتقصية للحقائق ترصد وتبلو وتوثق وتدقق حتى غدت أعمالهم مجلداتٍ ضِخَامًا وكتباً مستقلة في تراجم هؤلاء الرواة ، وإنك لتعجب كلَّ العجب عند الاطلاع على كتاب تهذيب الكمال في أسماء الرجال للمِزِّي الدمشقي البالغ ثلاثين مجلدًا كله أسماء رواة رووا الأحاديث . واستعملت طريقة الإسناد أيضًا عند غير أصحاب الحديث ، فاستعملت في الروايات التاريخية، والإجازات العلمية كإجازة الشيخِ طالبَهُ في إقراء كتابٍ ما . نعم إنَّ الإسناد مفخرة حضارية ،ونتذكر هنا مقولة ابن المباركِ : لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء . ولكنَّ المتنمرين أَبَوْا أن يرضوا بهذا التفوق الحضاري في الرواية ، فبدأوا يتجرأون على الرواية خبط عشواء ، بل يطعنون في كتب الحديث تجرأً وتطاولًا وسفهًا بغير علم ، معرضين عن الإسناد وطريقته الدقيقة كل الإعراض ! ولا أدري أي رواية في الدنيا يقبلها المتنمرون هؤلاء إذا كانوا جاحدين طريقة الإسناد !! ولو أنصف هؤلاء الجاحدون الإسناد لجعلوه أيضاً طريقة لضبط روايات حضاراتهم !