
من المعروف أن العرب كان أغلبهم بدوا لا يقيدون شعرهم في كتاب أو نقش فإذا تقدم الزمن ضاع ما نطق به شعرائهم ولما وصل الشعر إلى ما وصل إليه في شعر امرئ القيس وأمثاله من أصحاب المعلقات من نظم منسجم ونفس طويل وتعبير محكم ووحدة في القافية خافوا على ضياعه من الصدور والألسن وعملوا علي نقله من مشافهة الإرسال والاستقبال إلى الحضور الكتابي للخط والقراءة فحفظوا هذه المعلقات في صحائف نفيسة من قباطي مصر (القباطي بضم القاف وفتح الباء: ثياب رقاق من كتان مصر ناصعة البياض لا تشف ناعمة ملساء) كتبوا علي نسيجها المعلقات بالذهب فصارت مذهبات وصارت معها القصيدة المختارة (مذهبة) وبعد كتابتها يعلم بذلك عبد المطلب بن عبد مناف (حاكم العرب الذي يجمع الصفتين الدينية والدنيوية الذي تصفه السيرة بأنه: حاكم الحكام والمتولي علي البيت الحرام شيخ الحطيم وزمزم حاكم العرب وجد النبي المنتخب) فيأمر بنصب العرنوس (المنبر) الذي كان يخطب عليه في زمن الجاهلية في سوق عكاظ (كان ذلك المنبر شاهقا في الارتفاع لأن طوله ثلاثة وعشرون زراعا) وتجيء القصيدة ملفوفة في ثوب من الديباج فيأخذها عبد المطلب وينشرها بين يديه ثم ينادي برجل من حكماء مكة يقال له: وائل بن العاص، فيقول له: يا ابن العاص. أرق هذا المنبر واسمع الناس هذه القصيدة بأعلى صوتك. فينشد وائل القصيدة بصوته الذي كان أندى من وابل المطر فيسمع كل من حضر من العرب للحج القصيدة ويعود العرب إلى خيامهم، ليأخذوا أهبه الرحيل بعد أن زاروا بيت الله الحرام وقرئت عليهم القصيدة التي اعترف بها كمذهبه أو معلقة وأعلن الاعتراف بجدارتها شعرا وبجدارة قائلها شاعراً. وتاريخنا الأدبي يحفظ لنا ديواناً من الشواهد على ذلك، ولعل قصيدة لقيط بن يعمر بن خارجة الإيادي، أقدم ما وصل إلينا من ذلك، فقد عاصر هذا الشاعر كسري سابور ذا الأكتاف، وكتب له وترجم، واطلع على أسرار دولته وقصيدته التي سقطت في يد من أوصلها إلى كسري، كانت سبباً في قطع لسانه وقتله، فيها تحذير لقومه بني إياد من غزو فارسي وشيك، ودعوة إلى اتخاذ الأهبة. وكان قد انتهي إلى علمه أن قبيلته مشغولة بالتجارة والزراعة والاستسلام لنعيم الحياة الجديدة الحضرية التي أحرزتها على ضفاف الفرات (إياد هي احدي القبائل الأربع التي تفرعت عن نزار بن معد بن عدنان، كانوا يسكنون تهامة ولكنهم اضطروا لمغادرة مستوطنهم الأصلي والمهاجرة إلى مناطق مختلفة من الجزيرة العربية فنزلت إياد ناحية من نواحي العراق - منطقة بين البحرين وسنداد والخورنق والكوفة- وانتشروا على ضفاف الفرات ثم أخذوا يهاجمون الفرس وبلغت هجماتهم ذروتها حين سبي رجل منهم عروساً فارسية نبيلة. فأثار ذلك غضب ملك الفرس ودفعه إلى إرسال جيش كبير لمهاجمة إياد). وما إن شاهد لقيط بن يعمر بن خارجة الإيادي هذا الاستنفار العسكري الفارسي حتى استثيرت مشاعره وعلم أنه مقدم على ركوب المركب الخشن فلم يخاطر بمنصبه فقط وإنما خاطر بحياته فسرب إلى قومه قصيدة مكتوبة هي رسالة مفتوحة يحذرهم فيها في حياة النعيم في حين يعد عدوهم العدة للقضاء عليهم. وكان حديث الشاعر موجها إلى رؤساء القبائل من إياد الذين كانوا منقسمين في الرأي قبل حدوث المعركة – معركة دير الجماجم- فقد كان فريق منهم يعد نفسه ضعيفاً عاجزا عن القتال وفريق يخاف سطوة الفرس وأنه وقومه يجب أن يذهبوا للصحراء لأنه ليست لديهم قوة يواجهون بها الجيوش الفارسية، وكذلك كان بني حنيفة الذين لم يحضروا الاجتماع ولم يكن في المجتمعين من يؤيد الحرب إلاّ سيار العجلى سيد إياد، وفي هذه اللحظة وصلت قصيدة لقيط يحذرهم غزو فارس ويأمرهم بالاتحاد والتكاتف، وقد كان فجمعت إياد عدتها وعددها وهجمت على جيش ملك الفرس وقضت عليه وتكدست جماجم القتلى في أرض المعركة بالقرب من دير هناك سمي فيما بعد دير الجماجم، أما لقيط فإنه لما بلغ كسري أن لقيطا أبلغ قبيلته عن توجه الجيوش الفارسية لغزوهم قطع لسانه ثم قتله، وقصيدة لقيط هي القصيدة الوحيدة التي نعرفها من شعر لقيط إذ لا يوجد في ديوانه إلا هذه القصيدة العينية، وقوامها خمس وخمسون بيتاً وأربعة أبيات دالية هي بمثابة المقدمة التحذيرية لهذه القصيدة، وهي: سلام في الصحيفة من لقيط إلى من بالجزيرة من إياد بأن الليث كسري قد أتاكـــــم فلا يشغلنكم سوق النَّقاد أتاكم منهــــــم ستــون ألفــاً يزجون الكتائب كالجــراد على حنـــق أتينكــــم فهــــذا أوان هلاككم كهلاك عاد. أما القصيدة: يا دارَ عَمرَةَ مِن مُحتَلِّها الجَرَعا هاجَت لِيَ الهَمَّ وَالأَحزانَ وَالوَجَعا تامَت فُؤادي بِذاتِ الجِزعِ خَرعَبَةٌ مَرَّت تُريدُ بِذاتِ العَذبَةِ البِيَعا جَرَّت لِما بَينَنا حَبلَ الشُموسِ فَلا يَأساً مُبيناً تَرى مِنها وَلا طَمَعا فَما أَزالُ عَلى شَحطٍ يُؤَرِّقُني طَيفٌ تَعَمَّدَ رَحلي حَيثُما وُضِعا إِنّي بِعَينَيَّ إِذ أَمَّت حُمولُهُمُ بَطنَ السَلَوطَحِ لا يَنظُرنَ مَن تَبِعا طَوراً أَراهُمُ وَطَوراً لا أُبينُهُمُ إِذا تَواضَعَ خِدرٌ ساعَةً لَمَعا بَل أَيُّها الراكِبُ المُزجي عَلى عَجَلٍ نَحوَ الجَزيرَةِ مُرتاداً وَمُنتَجِعا أَبلِغ إِياداً وَخَلِّل في سَراتِهِمِ أَنّي أَرى الرَأَيَ إِن لَم أُعصَ قَد نَصَعا يا لَهفَ نَفسِيَ أَن كانَت أُمورُكُمُ شَتّى وَأُحكِمَ أَمرُ الناسِ فَاِجتَمَعا أَلا تَخافونَ قَوماً لا أَبا لَكُمُ أَمسَوا إِلَيكُم كَأَمثالِ الدَبا سُرُعا أَبناءُ قَومٍ تَأَوَّوكُم عَلى حَنَقٍ لا يَشعُرونَ أَضَرَّ اللَهُ أَم نَفَعا أَحرارُ فارِسَ أَبناءُ المُلوكِ لَهُم مِنَ الجُموعِ جُموعٌ تَزدَهي القَلَعا فَهُم سِراعٌ إِلَيكُم بَينَ مُلتَقِطٍ شَوكاً وَآخَرَ يَجني الصابَ وَالسَلَعا لَو أَنَّ جَمعَهُمُ راموا بِهَدَّتِهِ شُمَّ الشَماريخِ مِن ثَهلانَ لَاِنصَدَعا في كُلِّ يَومٍ يَسُنّونَ الحِرابَ لَكُم لا يَهجَعونَ إِذا ما غافِلٌ هَجَعا لا الحَرثُ يَشغَلُهُم بَل لا يَرَونَ لَهُم مِن دونِ بَيضَتِكُم رِيّاً وَلا شِبَعا وَأَنتُمُ تَحرُثونَ الأَرضَ عَن سَفَهٍ في كُلِّ مُعتَمَلٍ تَبغونَ مُزدَرَعا وَتُلقِحونَ حِيالَ الشَولِ آوِنَةً وتَنتِجونَ بِدارِ القُلعَةِ الرُبَعا أَنتُم فَريقانِ هَذا لا يَقومُ لَهُ هَصرُ اللُيوثِ وَهَذا هالِكٌ صَقَعا وَقَد أَظَلَّكُمُ مِن شَطرِ ثَغرِكُمُ هَولٌ لَهُ ظُلَمٌ تَغشاكُمُ قِطَعا ما لي أَراكُم نِياماً في بُلَهنِيَةٍ وَقَد تَرَونَ شِهابَ الحَربِ قَد سَطَعا فَاِشفوا غَليلي بِرَأيٍ مِنكُمُ حَسَنٍ يُضحي فُؤادي لَهُ رَيّانَ قَد نَقِعا وَلا تَكونوا كَمَن قَد باتَ مُكتَنِعاً إِذا يُقالُ لَهُ اِفرِج غُمَّةً كَنَعا صونوا جِيادَكُمُ وَاِجلوا سُيوفَكُمُ وَجَدِّدوا لِلقِسِيِّ النَبلَ وَالشِرَعا وَاِشروا تِلادَكُمُ في حِرزِ أَنفُسِكُم وَحِرزِ نِسوَتِكُم لا تَهلِكوا هَلَعا وَلا يَدَع بَعضُكُم بَعضاً لِنائِبَةٍ كَما تَرَكتُم بِأَعلى بيشَةَ النَخَعا أَذكوا العُيونَ وَراءَ السَرحِ وَاِحتَرِسوا حَتّى تُرى الخَيلُ مِن تَعدائِها رُجُعا فَلا تَغُرَّنَّكُم دُنيا وَلا طَمَعٌ لَن تَنعَشوا بِزِماعِ ذَلِكَ الطَمَعا يا قَومِ بَيضَتُكُم لا تُفجَعُنَّ بِها إِنّي أَخافُ عَلَيها الأَزلَمَ الجَذَعا يا قَومِ لا تَأمَنوا إِن كُنتُمُ غُيُراً عَلى نِسائِكُمُ كِسرى وَما جَمَعا هُوَ الجَلاءُ الَّذي يَجتَثُّ أَصلَكُمُ فَمَن رَأى مِثلَ ذا رَأياً وَمَن سَمِعا فَقَلِّدوا أَمرَكُمُ لِلَّهِ دَرُّكُمُ رَحبَ الذِراعِ بِأَمرِ الحَربِ مُضطَلِعا لا مُشرِفاً إِن رَخاءُ العَيشِ ساعَدَهُ وَلا إِذا عَضَّ مَكروهٌ بِهِ خَشَعا مُسَهَّدَ النَومِ تَعنيهِ ثُغورُكُمُ يَرومُ مِنها إِلى الأَعداءِ مُطَّلَعا ما اِنفَكَّ يَحلُبُ دَرَّ الدَهرِ أَشطُرَهُ يَكونُ مُتَّبِعاً طَوراً ومُتَّبَعا وَلَيسَ يَشغَلُهُ مالٌ يُثَمِّرُهُ عَنكُم وَلا وَلَدٌ يَبغي لَهُ الرَفَعا حَتّى اِستَمَرَّت عَلى شَزرٍ مَريرَتُهُ مُستَحكِمَ السِنِّ لا قَحماً وَلا ضَرَعا كَمالِكِ بنِ قَنانٍ أَو كَصاحِبِهِ زَيدِ القَنا يَومَ لاقى الحارِثَينِ مَعا إِذ عابَهُ عائِبٌ يَوماً فَقالَ لَهُ دَمِّث لِجَنبِكَ قَبلَ اللَيلِ مُضطَجَعا فَساوَروهُ فَأَلفَوهُ أَخا عَلَلٍ في الحَربِ يَحتَبِلُ الرِئبالَ وَالسَبُعا عَبلَ الذِراعِ أَبِيّاً ذا مُزابَنَةٍ في الحَربِ لا عاجِزاً نِكساً وَلا وَرَعا مُستَنجِداً يَتَحَدّى الناسَ كُلَّهُمُ لَو قارَعَ الناسَ عَن أَحسابِهِم قَرَعا لَقَد بَذَلتُ لَكُم نُصحي بِلا دَخَلٍ فَاِستَيقِظوا إِنَّ خَيرَ العِلمِ ما نَفَعا هَذا كِتابي إِلَيكُم وَالنَذيرُ لَكُم فَمَن رَأى رَأيَهُ مِنكُم وَمَن سَمِعا بِمُقلَتَي خاذِلٍ أَدماءَ طاعَ لَها نَبتُ الرِياضِ تُزَجّي وَسطَهُ ذَرَعا وَواضِحٍ أَشنَبِ الأَنيابِ ذي أُشُرٍ كَالأُقحوُانِ إِذا ما نورُهُ لَمَعا إِنّي أَراكُم وَأَرضاً تُعجَبونَ بِها مَثلَ السَفينَةِ تَغشى الوَعثَ وَالطَبَعا خُزراً عُيونُهُمُ كَأَنَّ لَحظَهُمُ حَريقُ نارٍ تَرى مِنهُ السَنا قِطَعا وَتَلبَسونَ ثِيابَ الأَمنِ ضاحِيَةً لا تَجمَعون وَهَذا اللَيثُ قَد جَمَعا يَسعى وَيَحسِبُ أَنَّ المالَ مُخلِدُهُ إِذا اِستَفادَ طَريفاً زادَهُ طَمَعا فَاِقنَوا جِيادَكُمُ وَاِحموا ذِمارَكُمُ وَاِستَشعِروا الصَبرَ لا تَستَشعِروا الجَزَعا فَإِن غُلِبتُم عَلى ضِنٍّ بِدارِكُمُ فَقَد لَقيتُم بِأَمرٍ حازِمٍ فَزَعا لا تُلهِكُم إِبِلٌ لَيسَت لَكُم إِبِلٌ إِنَّ العَدُوَّ بِعَظمٍ مِنكُمُ قَرَعا لا تُثمِروا المالَ لِلأَعداءِ إِنَّهُمُ إِن يَظهَروا يَحتَووكُم وَالتِلادَ مَعا هَيهاتَ لا مالَ مِن زَرعٍ وَلا إِبِلٍ يُرجى لِغابِرِكُم إِن أَنفُكُم جُدِعا وَاللَهِ ما اِنفَكَّتِ الأَموالُ مُذ أَبَدٍ لِأَهلِها إِن أُصيبوا مَرَّةً تَبَعا ماذا يُرَدُّ عَلَيكُم عِزُّ أَوَّلِكُمُ إِن ضاعَ آخِرُهُ أَو ذَلَّ وَاِتَّضَعا قوموا قِياماً عَلى أَمشاطِ أَرجُلِكُم ثُمَّ اِفزَعوا قَد يَنالُ الأَمنَ مَن فَزِعا لا يَطعَمُ النَومَ إِلّا رَيثَ يَبعَثُهُ هَمٌّ يَكادُ سَناهُ يَقصِمُ الضِلَعا يا قَومِ إِنَّ لَكُم مِن إِرثِ أَوَّلِكُم مَجداً قَد أَشفَقتُ أَن يَفنى وَيَنقَطِعا *عضو اتحاد كتاب مصر