مرسخًا حضوره كأول متحف رقمي دائم في المملكة..

متحف “تيم لاب بلا حدود” يحتفي بعامه الأول ويواصل جذب الزوار من 25 جنسية.

في قلب جدة التاريخية، المدينة التي تحرس ذاكرة البحر والمكان، يحتفي متحف “تيم لاب بلا حدود” بعامه الأول بوصفه أول متحف دائم للفنون الرقمية في المملكة، وقد غرس حضوره في أحد مواقع اليونسكو للتراث العالمي، كأنما جاء ليضيف بعدًا معاصرًا إلى عمقٍ تراثيٍّ ضاربٍ في الزمن. فمنذ لحظة افتتاحه، بدا المتحف تجربةً تتجاوز المفهوم التقليدي للعرض الفني، إلى فضاء تفاعلي حيّ، تتحرك فيه الأعمال وتتنفس وتتحوّل باستمرار، كما لو كانت الكائنات الرقمية قد وجدت موطئ قدمٍ لها في زوايا الحارة القديمة، وبدأت تنسج سرديّتها على جدرانها العتيقة. عامٌ مضى، والمتحف ما زال يدهش زواره من مختلف الجنسيات ـ تجاوز عددهم خمسًا وعشرين جنسية ـ وأكثرهم من فئة الشباب، ممن وجدوا في هذا الفضاء ما يلبّي توقهم للتجريب والمغامرة الفنية، ويمنحهم دورًا حقيقيًا في تشكيل التجربة. لا خرائط هنا، ولا مسارات تُرشد الخطى، فكل زيارة تُصاغ لحظةً بلحظة، وكل حركةٍ تُبدّل المشهد وتعيد تشكيل الضوء واللون، في تماهٍ نادر بين الزائر والعمل، حيث يتحوّل الجسد إلى أداة استكشاف، ويصبح الحضور فعلًا خلاقًا، يعيد صياغة الواقع عبر الفن. وما يميّز التجربة البصرية في هذا المتحف هو انفتاحها على الزمن وتبدلاته، فالأعمال الفنية لا تستقر على حال، بل تخضع لإيقاع الفصول وتحولات الطبيعة، وتتماهى معها في عرض دائم التجدّد. في “تكاثر الحياة الهائلة” تتبدل الأزهار شهريًا، وتتابع دورة الميلاد والفناء كما لو كانت تكتب تاريخها الخاص في كل لحظة. أما “ذاكرة التضاريس”، ذلك العمل الذي يوهم بالثبات، فهو ينطوي على حركة دقيقة لا تُرى إلا بالتأمل العميق، حيث تتبدل التضاريس الداخلية بصمتٍ يماثل نبض الأرض. في “غابة المصابيح”، تسري إشارات الضوء بين المصابيح كما تسري المشاعر بين البشر، في تتابعٍ رياضيٍّ بالغ الدقة، يخلق مسارًا ضوئيًا واحدًا يتشكل بفعل وجود الزائر، فينيرُ مصباحًا، ثم ينتقلُ إلى آخر، ليكوّنَ خيطًا من النور لا ينفصم، تتقاطع فيه حركة الأفراد في الفضاء، وتتلاقى دون أن تتكرر. أما “أزهار في الشفافية اللامتناهية”، فهي تجربة تغمر الزائر بفيضٍ من الألوان والأشكال، وتجعله جزءًا من العمل نفسه، حيث يمتزج الكائن البشري بالصورة والضوء، وتتشكل طبقات الواقع الفني فوق الواقع الفيزيائي في اندماجٍ كليٍّ لا يترك مكانًا للفصل. المتحف لم يكن مجرد تجربة جمالية، بل كان تجسيدًا فعليًا لرؤية المملكة في دعم الصناعات الإبداعية وتعزيز الاقتصاد الثقافي، وقد تُوِّج هذا المسار بحصول المتحف على “جائزة مكة للتميز الثقافي” – واحدة من أرفع الجوائز السعودية في مجال الثقافة والفنون – في دورتها السادسة عشرة، وهو تكريم يعكس المكانة التي بات يحتلها هذا المشروع الريادي، ليس على مستوى المملكة فحسب، بل على خريطة الفن العالمي. ولم يكن الحضور مقتصرًا على الزوار فحسب، بل شكّل المتحف نقطة جذب للفعاليات الدولية أيضًا، أبرزها مهرجان البحر الأحمر السينمائي الذي أُقيم في ديسمبر 2024، وجمع نخبة من صناع السينما والمبدعين من حول العالم، ممن اختاروا التجول بين أروقة “تيم لاب” ليشهدوا هذا التداخل العجيب بين الفن والتقنية، بين الموروث والمستقبل. في “تيم لاب بلا حدود”، لا تتكرر اللحظة، ولا تنضب الدهشة، بل يُعاد اختراعها عند كل زيارة. هنا، لا تقف أمام لوحة جامدة، بل تعيش داخل العمل، تُحرّك تفاصيله، ويعيد تشكيلك كما تعيد تشكيله. إنه ليس متحفًا بالمعنى التقليدي، بل تجربة شعورية وذهنية وجسدية، تسحبك من رتابة اليومي، وتُلقي بك في عوالم ضوئية شاسعة، لا حدود لها. إنه الفن حين يُصبح حيًا، والضوء حين يتكلم، والمكان حين يُصغي لحركة الجسد، والتاريخ حين يُفسح مكانًا للمستقبل. متحف “تيم لاب بلا حدود” في جدة، ليس فقط احتفاءً بمرور عام على الافتتاح، بل احتفاءٌ بميلاد لغة جديدة للفن، تتكلمها العيون، ويكتبها الزوار بأنفاسهم، على جدران الضوء.