«بيليه» وشعبية الكرة في أمريكا.

بدأت رحلة أسطورة كرة القدم البرازيلي «بيليه» المثيرة إلى الولايات المتحدة في عام 1975، بعد أن كان قد قرّر الاعتزال وكان يبلغ من العمر 35 عاماً، وبعد أن مارس لعبة كرة القدم على مدى ثمانية عشر عاماً، وقاد منتخب بلاده للفوز بكأس العالم ثلاث مرّات. إلا أنه ما لبث أن وافق على عرضٍ تقدّم به فريق «نيويورك كوزموس» الأمريكي كي يلعب بين صفوفه بعقدٍ بلغت قيمته ستّة ملايين دولار، ومُدّته ثلاث سنوات. لقد أغرى «كلايف توي»، مالك فريق كوزموس بيليه للانضمام إلى فريقه بهذه الكلمات: «إذا ذهبتَ إلى فريق «ريال مدريد» أو «يوفنتوس»، ستفوز بدون شكّ بلقب دوريّ آخر، ولكنك إذا جئت إلى نيويورك فسيكون هناك بلدٌ بأكمله تحت قدميك»! لقد كان السبب الرئيس الذي دفع نادي كوزموس الاستعانة ببيليه ليرتدي قميصه هو دعم وبسط شعبيّة أكثر الألعاب الرياضية انتشاراً في العالم بين الأمريكيين، إذ كانت كرة القدم لُعبةً مٌهمّشة، تٌقام مبارياتها بمُدرّجاتٍ شبه فارغة، وبفِرَقٍ نِصف مٌحترفة. وكانت الألعاب الرياضية التي تحظى بالشعبية الجارفة هناك: كرة القدم الأمريكية أولاً ثم كرة السلّة والبيسبول. وقد كان مبلغ العقد الذي تمّ الاتفاق عليه بين بيليه وكوزموس ضخماً بكلّ المقاييس في منتصف السبعينيات، إذ لم يكن يجني أيٌّ من الرياضيين في أمريكا مثل هذا المبلغ، حتى أكثرهم شُهرةً؛ فقد كان الأعلى أجراً هُما لاعب كرة القدم الأمريكية «أو جي سمبسون»، ولاعب كرة السلّة «كريم عبدالجبّار»، برواتب سنوية تصل إلى 600 ألف دولار، وكان راتب الرئيس الأمريكي حينها «جيرالد فورد» يبلغ 200 ألف دولار. ولم يقتصر الأمر على التقدير المادي؛ بل إن الرئيس فورد استقبل بيليه في البيت الأبيض، ولعب معه بالكرة في حديقة الورود، وفي عام 1977 استقبله الرئيس الأمريكي المٌنتخب حديثاً «جيمي كارتر»، وقال له: «أنا جيمي كارتر، ولا داعي لتُعرّفني بنفسك لأن الجميع يعرفك»! لم تكن كرة القدم لعبة شعبية في الولايات المتحدة كما ذكرنا، إذ كانت آخر مشاركة للمنتخب الأمريكي في كأس العالم عام 1950، ولذلك فإن قدوم بيليه قلب الأمور رأساً على عقب، فأصبحت كرة القدم خلال تلك السنوات مشهورة كما هي في بقيّة أنحاء العالم، وارتفع متوسط عدد الجماهير التي تحضر المباريات من خمسة آلاف إلى خمسين ألفاً، ولتلبية الطلب على التذاكر انتقل فريق كوزموس إلى ملعب فريق «اليانكيز»، ولاحقاً إلى ملعب «الجيانتس» العملاق، المُخصّص لمباريات كرة القدم الأمريكية الذي يتّسع لسبعين ألف مُتفرّج. ورغم وجود بيليه ضمن كتيبة كوزموس، فإن الفريق لم يتمكّن من تحقيق كأس البطولة، ولهذا تعاقد مع القيصر الألماني «فرانتس بيكنباور» والمُدافع البرازيلي «كارلوس ألبرتو»، لينضمّا إلى المُهاجم الإيطالي «جورجيو كيناليا»، ويصبح كوزموس فريق الأحلام. وبذلك استطاع بيليه أخيراً، حين كان يخوض مباراته الأخيرة في مسيرته الكروية، استطاع أن يقود فريقه بنجاح، ويتمكّن من هزيمة فريق «سياتل ساوندرز» بنتيجة هدفين مُقابل هدف، ويفوز بلقب البطولة. تقول مديرة أعمال بيليه السابقة «روزا غانغوزا: «بالنسبة للأمريكيين فقد اخترع بيليه كرة القدم، وأصبحت هي الرياضة رقم واحد التي يُشارك فيها الفتيان دون 18 عاماً، وهناك جيل كامل من الأطفال والشباب يستمتعون بلعب كرة القدم.. لقد فتح بيليه للأمريكيين باب رياضة جديدة تماماً بالنسبة لهم.. رياضة لا تتطلّب -كما في كرة القدم الأمريكية- أن يكون وزن اللاعب فيها 95 كيلو غراماً، وأن يكون مفتول العضلات ليُمارسها». بعد عودة بيليه إلى بلاده، عاش الدوري الأمريكي لكرة القدم موسمين جيّدين آخرين، قبل أن ينهار بسبب فشل صفقات حقوق البثّ التلفزيوني المباشر، وخيبات أمل العديد من الفِرَق التي أرادت تقليد كوزموس، من خلال التعاقد مع نجوم ٍ كبار آخرين في نهاية مسيراتهم الكروية، من أمثال الهولندي «يوهان كرويف» أو الإيرلندي «جورج بيست». وفي بداية التسعينيات، تأهل المنتخب الأمريكي للمشاركة في جميع نهائيات كأس العالم، فيما عدا دورة 2018، وستُقام منافسات كأس العالم للعام القادم على أرضها مع كندا والمكسيك، فهل يٌحقّق الأمريكيون مفاجآت تٌبهر العالم، وخصوصاً أن أسطورة كرة القدم «ليونيل ميسي» يلعب في فريق «إنتر ميامي» بالولايات المتحدة، مٌعيداً تاريخ الأسطورة «بيليه» حين لعب لفريق «نيويورك كوزموس» قبل نصف قرن؟