السعودية بعد حرب إيران وإسرائيل: قيادة ما بعد الدخان.

لم تكن الحرب بين إيران وإسرائيل حدثًا عابرًا في سجل الصراعات الإقليمية. لقد كشفت تلك الأيام الاثني عشر عن حدود القوة وعن نهاية مرحلة كانت تقوم على التهديدات المفتوحة والتحالفات المموهة. ورغم أن الضجيج الإعلامي انصب على مشاهد المواجهة وسقوط الصواريخ إلا أن التحول الحقيقي بدأ بعد توقف القتال في الفراغ الذي تركته هذه الحرب وفي سؤال كبير ظل معلقًا: من سيمسك بزمام التوازن بعد أن ضعفت القبضات القديمة؟ في تلك اللحظة ظهرت السعودية كقوة لم تكن طرفًا مباشرًا في النزاع لكنها كانت اللاعب الوحيد الذي خرج من الحرب دون أن يخسر شيئًا ودون أن يلوّح بانتصار بل بما هو أعمق: الجاهزية لمرحلة ما بعد الدخان. لم يكن الهدوء السعودي انسحابًا بل كان اختيارًا محسوبًا في لحظة كانت كل الأطراف تتخبط بين حسابات الردع ورد الفعل. وحين بدأت المعادلات تنهار لم تكن الرياض بحاجة إلى استعراض دور لأنها كانت تمارس هذا الدور منذ ما قبل اندلاع الصراع وتحضّر نفسها لقيادة المرحلة التي تأتي بعد أن تنطفئ النيران. فالحرب لم تكن سوى كشف مكثف لحقيقة أن كثيرًا من القوى التي بدت واثقة على السطح كانت ترتكز إلى بنى رخوة. إيران خرجت وقد تراجع نفوذها الخارجي بفعل الضربات المتعددة وانهار جزء من شبكة إمدادها الإقليمية. وإسرائيل خرجت بردع جزئي لكنها أدركت أنها لا تستطيع تحمل حرب طويلة أمام جبهات متعددة ولا أن تعتمد بعد اليوم على التفوق العسكري وحده في ظل تغيرات جوهرية في توازن القوة حولها. ولبنان وسوريا والعراق وكل المناطق التي كانت تعيش على هوامش الصراعات الكبرى وجدت نفسها بلا غطاء واضح ولا أجندة يمكن البناء عليها. في هذا المناخ لم تحتج السعودية إلى إعادة تقديم نفسها. كانت معادلتها واضحة: لا صدام ولا فراغ. لا انحياز ولا حياد سلبي. قوة تمارس دورها بحسابات لا تعيش على الماضي ولا ترهن قرارها بتحالفات مؤقتة. كانت المملكة تستثمر بهدوء في بناء علاقات دولية متزنة وفي تعزيز أمنها الداخلي وفي تقوية حضورها الإقليمي من دون أن تضع نفسها في موقع الاصطفاف أو المواجهة العبثية. لذلك حين توقفت الحرب لم تُفاجأ الرياض بالتغيرات لأنها كانت تتحرك بالفعل في اتجاه إعادة تشكيل منطق العلاقات الإقليمية بعيدًا عن التصعيدات الهشة. لا يتعلق الأمر هنا بتقديم السعودية كقوة توازن فهذا توصيف أصبح قاصرًا عن واقعها الجديد. ما حدث هو أنها بدأت تتحول من فاعل إقليمي تقليدي إلى قوة مؤسسة لما بعد المحاور. لقد انكسر في الحرب منطق “من معنا ومن ضدنا”؟ وظهرت الحاجة إلى نمط جديد من التفكير السياسي تكون فيه الأولوية للقدرة على احتواء النتائج لا إنتاج الصراعات. السعودية دخلت إلى هذه اللحظة بقدرة واضحة على الإمساك بالخيوط المتناثرة ليس من باب الوساطة التقليدية بل باعتبارها الدولة التي ما زالت قادرة على تقديم نموذج استقرار قابل للاستمرار في منطقة تعب الجميع فيها من الفوضى والانقسام. اللافت أن هذا الدور لم يكن ممكنًا لو لم تكن السعودية قد أعادت في السنوات الأخيرة بناء علاقتها مع نفسها أولًا. الانضباط الداخلي وتحديث مؤسسات الدولة والتوازن في السياسة الخارجية والتحول في إدارة ملفات الاقتصاد والطاقة كلها عناصر جعلت من المملكة قوة صلبة دون أن تحتاج إلى استعراض هذه الصلابة. وعندما تدفقت التحديات كانت السعودية مستعدة لأن تتقدم لا من موقع الاضطرار بل من موقع الفهم الاستراتيجي العميق لمسار المنطقة ومآلاتها. مرحلة ما بعد الحرب لا تعني فقط وقف القتال. هي لحظة اختبار لكل الأطراف: كيف ستتعامل مع بيئة جديدة فقدت فيها الأطراف التقليدية كثيرًا من قدرتها على الضبط؟ كيف ستُعاد صياغة أولويات الأمن وإعادة الإعمار وإدارة التحالفات؟ والأهم: من يملك القدرة على بناء خطاب سياسي جديد لا يقوم على ماضٍ مؤدلج بل على معطى واقعي يراعي مصالح الشعوب ويقود الإقليم نحو استقرار طويل الأمد؟ الإجابة الواقعية تشير إلى أن السعودية وحدها اليوم هي من تملك الأدوات التي تؤهلها لذلك. ليست وحدها من حيث القوة ولكنها وحدها التي لم تتورط في حرب ولم تراهن على وكلاء ولم تخلط الأمن بالإيديولوجيا. هذا التماسك في الموقف جعلها تحظى بثقة الأطراف المتقابلة بما في ذلك القوى الدولية الكبرى التي باتت ترى في الرياض شريكًا عقلانيًا يمكن البناء معه على معادلة مصالح جديدة في المنطقة. في المقابل لا يبدو أن إيران قادرة على استعادة دورها السابق بسهولة. الضرر الذي أصاب شبكات نفوذها الخارجي لن يُرمم بسرعة والشرخ الداخلي الذي تعانيه لن يُحتوى بوسائل قديمة. هي الآن أمام احتمالين: إما مراجعة شاملة تؤدي إلى إعادة تحديد موقعها السياسي وإعادة تعريف دورها الإقليمي أو الاستمرار في إنتاج أزمات جديدة للهروب من الأزمة الأكبر وهي تآكل مشروعها من الداخل. لكن المشكلة في الخيار الثاني أن أدوات الهروب باتت محدودة. القوة الناعمة التي كانت تراهن عليها إيران باتت بلا جمهور. أدوات التأثير الإقليمي التي غذّتها بالعقيدة والسلاح فقدت كثيرًا من غطائها الأخلاقي والسياسي. والأهم أن البيئة الشعبية في أكثر من ساحة أصبحت تميل إلى خطاب الدولة الوطنية لا إلى منطق الوكالة والولاءات العابرة. في هذا السياق يبدو أن المشهد الجديد لا يتسع لطهران كما عرفناها سابقًا ولا لإسرائيل التي كانت تعتقد أن أمنها يصنع بالردع وحده ولا حتى للقوى الغربية التي اعتادت أن تملي شروطها على العواصم الضعيفة. هو مشهد جديد يتطلب من الجميع إعادة التفكير، لكن السعودية تبدو وحدها من استعدت له قبل أن يكتمل. لم تنتظر الانهيار لتتقدم ولم تحتفل بخسارة غيرها بل بدأت بإعادة ترتيب المشهد انطلاقًا من قناعة بسيطة وعميقة: أن المنطقة لا تحتاج إلى من يُدير الصراع بل إلى من يُدير المخرج منه. ليس من المطلوب أن تتولى السعودية أدوارًا تتجاوز منطق الشراكة الإقليمية ولا أن تحل محل الآخرين في مسؤولياتهم السيادية. ما يُنتظر منها هو أن تواصل ترسيخ نموذجها الوطني الذي يجمع بين التماسك الداخلي والرؤية المتزنة وأن تحتفظ بموقعها كمرجع للاستقرار الإقليمي من دون أن تفرض مسارات موحدة. وتستمر في استخدام مكتسباتها الداخلية كأدوات ذكية لتشكيل بيئة سياسية أكثر اتزانًا وقدرة على الاستجابة للتحديات. ويبقى الأهم أن تحافظ على خطاب سياسي رصين يبتعد عن المبالغة في استثمار اللحظة ويركّز على تحويل التوازن الهادئ إلى نتائج استراتيجية مستدامة. لقد بدأت مرحلة جديدة في المنطقة عنوانها ليس الحرب ولا التسوية السطحية بل التأسيس لعقد سياسي مختلف. وفي هذا العقد لن تُحتسب الأدوار بناءً على حجم القوة العسكرية فقط بل بناءً على من يملك الرؤية والاستقرار والشرعية الأخلاقية لقيادة مرحلة ما بعد الدخان. والسعودية اليوم بكل بساطة وهدوء هي الأقرب إلى هذا الموقع. *كاتبة وباحثة في الشأن الإيراني