قراءة في ديوان الشاعرة مستورة العرابي الجديد (ما انتبذت سوى يقيني)..
قسمات الذات وملامح الهوية: ومضات شعرية وتشكيل غنائيّ وملحميّ.

بوْحٌ صريح واعتداد وأنفة وكبرياء وشموخ يوشك أن يلامس زهر النرجس ويعانق عُجب النرجسية؛ ولكن تلقائية الاعتراف وصدق الشعور تعصمانه من زلل الكبر وغطرسة الادعاء. فالشاعرة تجعل من القصيدة مكمن سرّها ومنارة رؤيتها، وملاذ يقينها، ملامِحُها لغتها وتاريخها أشعارها. منهج الشاعرة واضح الرؤيا، لاحب السبيل، تفيض به قصائد الديوان منذ البداية حتى النهاية، تتلامح قسماتها وتتبدّى وتتأسّس عل أساليب الصياغة والتشكيل؛ غنائية ذاتية تنهض عل البوح الصريح والتمركز داخل الأنا، تمتح من مدخورها النفسي ومنطلقاتها واقتناعاتها، وهو ما جعل الشعرية تنهض على تأطير الموقف بالتقرير الصريح الذي يتكئ على تدفق تلقائي وانثيالات تعتمد تداعياً حرّاً يتوسل بالتصريح الذي يعتمد على التلميح ، واغتراف من معين الشعور الذي يتقاطع مع معطيات الفكر؛ من هنا كان التصوير محكوماً بإطار من العلامات الدلالية التي تختزل في صورة مفردة بين التوجيه الكنائي والتمثل الاستعاري . ومن البداية تتأسّس الرؤيا في قصائدها التي ترسم فيها ملامحها في إطارها الأسري والوطني (الأم الملهمة والأسرة الداعمة والوطن الحضن الدافئ) ثم قصيدتها الملحمية (حصتي من كل شيء) إذ تعتد باللغة فضاءَ تعبيرياً في حراكها المشهدي بين الصوت والصدى؛ ما يؤكد أن الهاجس الشاغل للذات انطلاقاتها البوحيّة الأمر الذي يستدعي الهم الأنثوي الأصيل في إرثه الثقافي الذي كانت تُكمّم فيه الأفواه في إطار الحصار السيادي الي يفرضه الرجل الشرقي, ملامح الهوية وقسمات الذات المبدعة رؤيةً وفلسفةً: الحرية والتفتح والعصيان والنسيان، والصعوبة والحُنوّ، مفارقات نفسية، وكلك لغة الحرير وفيض الأنوثة، الانسجام والالتزام (لا أهادن في الهوية) و(لا أرض سوى أرضي) فثمة انطلاقة تعصف بتلك القيود، ووعي بانتصار الحرية وتحقيق الذات، تحتشد الصور لتتلاقى مع اللغة الفورية الكنائية والرموز اللونية والمعنى المجرد؛ حيث تتشكل المفارقة: الحكاية ونقيضها أنا الحكاية كلها ونقيضها لم يستقم لي مائل مجاز تسري فيه حركة المعاني والأشياء سريان المعنى في عروق الحروف؛ فالحقيقة الثاكل مؤشرٌ على أمرين: خصوصية الذات وانتمائها الأنثوي في أقصى درجات الشعور بالفقد، ثم التمثّل والتقمص والتلبس حيث تذوب الذات وتتوحد على نحو إشراقي صوفي في ظواهر الكون (الطبيعة وطقوسها وتراتيلها) والتحليق في فضاءاتها (الصحو والخيال والغيم) والسّمو والسيادة ، وانتشاء بالرضا عن الذات (سيدة الكلام ) فلسفة التحدّي وإرادة الصمود (بنت الجبال) والتمركز في بؤرة الإبداع (القصيدة بنت روحي) وثمة انطلاقة لتحقيق الذات والتصريح بهويتها الإنسانية ورؤاها في عدد من قصائدها، بوْح صريح ومكاشفة جريئة وثقة واعتداد، وبطاقة تعريف ومواجهة لتحديات التفوق (الجندري) في مستوييه: العام و الخاص كما في قصيدتها (مساحة بيضاء) الترميز اللوني ومواجهة الذات للآخرين وتحديد المسافة بينهما، محورها الإبداعي الرمز اللوني (البياض) الحياد بما يحمله من معاني جمة : الصفاء والخلو من الأحقاد واستشراف المصير المشترك والنهايات. وكذلك الجهل بالمصائر والعجز عن استشراف الآتي في قصيدة (مسروقة مني) في إطار التداعي الحر الي ينضبط إ في إطار الاستقراء والتأمل والتفكّر، من هنا تنثال المعاني المجردة (المصادر) في دلالاتها المطلقة وما تنطوي عليه من غموض: الحدس والهجس والولع وسيطرة أساليب النفي وأجواء الغموض والحيرة، وفي نص آخر تتبدى الانطلاقة الحرة والمغامرة الجريئة والتمثّل الرّمزي في أوضح مستويات الدلالة فيه (الظبي) بما يومئ إليه من خفة وجمال ورشاقة تتمثلها الذات الشاعرة حرة ًطليقة من القيود، والتأويل في قصيدة تناظرية خليلية الوزن والإيقاع أعيد ترتيبها في نمط حداثي الشكل، فالذاكرة ظبي والشاعرة وردة مهذبة الأشواك. الزمن حاضر بتقلّباته واشتباكاته مع الهواجس والشواغل والذكريات ، تتمثّله الشاعرة في كهوف وخواطر واستدعاءات ، تحلق به في فضاءاتها الخاصة، تنتشي به ، تحاوره، تتصوره ، تستدعيه، تخترق سديمه ، تتخيّله مع ظواهره مكاناً وحيزاً ، تملؤه بهموم الروح وتتهجد في محرابه كوناً خاصّاً ، وتحلق في عليائه بحريّة ، تلملم أشتاته كما في قصيدتها (ذاكرة) فهي غيمة تسكن في ذاكرة المطر، تتجاوز في خيالها المألوف والمعروف ، وتصنع عالمها الخاص فتشتبك مع خفاياه وتعانق دلالاته ، تتلامح الكونيات الكبرى مع التفاصيل الصغرى؛ فالغيم والمطر يلتئم في المشهد مع المرايا والحرير والرؤيا الفلسفية مع الممارسات اليومية ؛ مزيج فريد تتشكل منه الصورة الفنية لتصنع حقلاً واسعاً من الإيحاءات: “الغيم يشبهني كثيراً/ يستبدُ بي الحنين / الغامض المجنون/” فالغيم من الظواهر الكونية الكبرى. “ كيف أهرب من حرير فاتن/ ينساب ما بيني وبيني/ كلما التفتت مراياي ارتعشت/ ولم أخن عطري وخانتني الأغاني والصور” التفاصيل اليومية الصغرى. وهكذا تمضي الشاعرة في قصائدها التي تأتي تحت عنوان مستقل (أمشي على وتر خفيف) تتقرّى فيها ملامح الذات الشاعرة ومقاماتها وحالاتها تحت عناوين ، قوامها اللفظة المفردة في ومضات شعريّة تسلّط فيها الضوء على عالمها الخاص وترسم هويتها ورؤاها وفلسفتها في سبع عشرة ومضة، أغلبها أسماء معان (مصادر) مطلقة الدلالة تعبر عن رؤية في إطار فلسفي . في (ضوء) كشفٌ ينير تصورات الشاعرة لذاتها تتجاوز الفخر التقليدي إلى الحفر عميقاً في خباياها، وتنبش في نخاع الوعي تحقيقاَ للذات في نهج تخييليٍ تتمثل فيه الأصل و النسب والموهبة الشعرية في اعتداد واعتزاز وثقة تستوحي من مذخورها المعرفي والثقافي ما تصوغ به موقفها فالآيات والأغنيات و البشريات والنسب والتدين والتمثل والتصور وحشد المفردات في دلالات تقريرية (المجاز ولغة العلو والنهر والضوء الهاشمي وأهش عصاي والمسر وفضاء الله) القاموس التصوري التناصًي يحمل ملامح الكناية القريبة والاستعارة الواضحة بالمفهوم الدلالي والتأويل المباشر ، وهي – أقصد هذه القصائد – في مجملها تفيض بالبوْح وتعبر عن موقف من الحياة والأحياء ومنهج السلوك والتأمل للذات في علاقتها مع عالمها . تجليات وتهيؤات وتصوّرات تستنبتها الشاعرة خيالاً مُجتزّاً من ناصية واقع نفسي ووجداني ، حوار مع الآخر وتسنم الموقف ومناجاة لمرآة الآخر نهرا وطفلا وفهم للعلائق مع الآخر يتجاوز حدود الوجد وأبعاد الحب انعكاس الآخر في مرآة الذات، التمثّل يتجاوز التشبيه ، فالتشبيه تماثل في الصفات أو بعضها ؛ أما التمثل ففناء فيه وتماهٍ معه ؛ والشاعرة هنا في تمثلاتها تنماث عباراتها كما تنماث قلوب الطير وفق ما أطلق من وصف على علاقة الحب لدى العذريين . تنبني القصيدة عل أركان ثلاثة: التخيّل (تصوّر الآخر) والتخييل (تصوير الذات) والوعي بالعلاقة بينهما (ترفق قليلاً بهذا الولع) أولا - أسميك طفلي ،، أسميك في النهر ثانيا - فأنا الكبرياء، أجيء شتاتاَ ثالثا - التفت لي ، الخلاص خطىً تُتّبع اللافت في نصوص الديوان هوية الأنثوية التي تتعالى على الإرث الذكوري وتواجه استعلاءاته في السياق ذاته تعترف بسطوته العاطفية وانجذاباتها إليه ، وتقتطف تجلياتها من تضاريس الكون ، تسلك سبيل الانزياح والتشتّت في قاموسها اللغوي وفي عالم الأنوثة و الطفولة وتتموضع في أنساقها الخاصّة وتجترح متنها المتفرد ، وتخترق ثبات السياقات وتستحوذ على الفتنة الساحرة وتجترئ على المقاييس الدارجة فتصنع شعريتها الخاصة: ما كنت أدرك كيف أخرج من علاقات النصوص ولا ارتبكت إذ ارتكبت الحب إلى أن تقول “ واكتملت بصيغة الأنثى / فحركت الرؤوس) تيارٌ رؤيويّ يجتاح الديوان يتمثل فيما أشرت إليه من قبل من اعتداد بالذات الشاعرة ، واستنبات للغة بمفرداتها التي تمنحها هويتها الإبداعية ، قاموسها الشعري حافل بالإشارات المتعدّدِة للغة والمفردات ، فاللغة ميدانها وعالمها الأثير ورصيدها الوفير ، وضمير المتكلم يفترش المساحة الأوفى في خطابها الشعري ؛ لها محرابها الخاص وكينونتها المتفرّدة وجرأتها التي تتجاوز المحظور و المخفيّ ، فالعالم الذكوري مكشوف الظهر مُخترق السياج فاقد للهيبة ؛ وهذه الظاهرة لون من ألوان العدول (الانزياح) الجرأة الواثقة التي تتمترس خلف حصون الإبداع وإن طالت تخوم الواقع و تجاسرت عليه: أنا كل قاموس الأنثى كلّه والماء قصدي ففي قصيدة (لا سبيل إلى مراودتي) و(عن سيرة في الماء) تجمح بالكلمات إلى آفاق التمرّد وتأخذها القصيدة إلى سحابات التداعي و النشوة إلى آفاق بعيدة ، في صورها المشهدية حركة مفعمة بتلقائية مقصودة تتقاطع فيها التجربة الحياتية من النهج الإبداعي (اليد التي تلوح في الهواء) صورة مشهدية في صيغة بيانية تعبر عن التلقائية الحرة وتكتظ بالحركة في مساحتها المحدودة ، و مسافتها القصيرة التي تستجلب مثيلاتها في شريط مكتظٍّ حافل (راحل من غير تأثيث الطريق ) (يرن القوس) تؤطر لك بجرأة صريحة وتقرير واثق (اجتزت الخلود بمفردي). إحساس عميق بالهويّة الجندرية تجتاح قصائد الديوان (أنا المرأة من رأسي لرأسي) تستحوذ عل الكل الأنثى بأبعاده وجوهره وأسئلته ولغته وسيرته العامة والخاصة تستكمل الدائرة دون أن تدع محيطها مشرع للهوية الكبرى الديرة والوطن والذات الشاعرة ، تذرعها أفقياَ وعمودياَ : كوناً وفضاءَ نفسيّاً واجتماعيّاً وذاتيا وإبداعياً، تحيط بالأنثى وعالمها العام والخاص ومحيطها الكوني : الليل والهواء والمكان والزمان والنفسي : الشجن والأنين والأرق والتحدي و المواجهة في قصيدتها (تخطيء في النفور غزالة) اعتداد بالذات يبلغ الذروة، حرية في استكشاف الكون والكائنات، تقاطع مع القوانين الكونية وسنن الكائنات متفردة متحدية للمألوف والمعروف: في الصبا أصحو وفي الفوضى أنام وليس يشبهني الزحام. ديوان يعبر عن الهوية والفلسفة وآلات الأنثوية في تحققها الخاص والعام ما أجدره بدراسة مستفيضة.