طريق الشّعر!

[أيها السائر، لا طريق الطريق تتعبّد حينما تسير حينما تسير تتعبّد الطريق*]. هذا النص للشاعر الإسباني أنطونيو ما تشاذو، نقله الدكتور محمد الولي، في ختام حديثه عن مشروع جان كوهن العلمي حول بنية اللغة الشعرية والكلام السامي.. والنص، رغم أنه ورد في سياق الحديث عن المعرفة الجديدة التي تنبثق في الدروب غير السالكة، يعزز شعرية الانبثاق، وهو وصف من عندي؛ ذلك أن من طبيعة الشعر، وربما كل عمل إبداعي شعرا أو سردا، أن يكمن في هذا الانبثاق الذي يجعل الطريق تابعة للخطى، أي أنّها تتشكل تابعة للمسير. وهي في الشعر أكثر عمقا وكثافة وحضورا، فالكلمات في الشعر لا تدلّ على مدلولات خارجية، ولا تشير إلى أشياء في الخارج، لأن الكلمات في الشعر هي الأشياء، هي ذاتها بما تكتنزه من طاقة إيحائية تشير إلى موقعها من النص، وهي لاتعني بذلك أنها في بنية مغلقة دلاليا، وإنما تعني سموّها عن التداول الاستعمالي وارتفاعها عن مستوى التوصيل الذي لا يتجاوز نقل الحدث الخارجي في اللغة الإخبارية. وفي النص الشعري أعلاه إذا تجاوزنا التلقي البارد لتركيب يبدو للوهلة الأولى ساذجا بسيطا، سندرك أنه يحمل خاصيتين من خصائص الشعر والكلام السامي؛ فأن تتعبّد الطريق بالسير يعني قلب لمعادلة الواقع المألوف حين تكون الطريق معبّدة للسير، وعمل الشاعر والشعر معا هو جعل الطريق تابعة لا متبوعة! أما الخاصية الثانية ففي هذا التناغم الإيقاعي المؤسس على القلب الدلالي، حيث ترد الجملة مرتين، مرة على صيغة اسمية:»الطريق تتعبد حينما تسير»، ومرة على صيغة فعل تنقلب فيها العبارة رأسا على عقب:»حينما تسير تتعبّد الطريق». إنها نفس المضمون تقريبا، لكن قلب التركيب جعلها ذات وجهين، وجهها الأول الذي تبادر فيه الطريق بالاستجابة للسائر، ووجهها الثاني الذي تقترن فيه الطريق بفعل السير، فحينما تسير تتعبّد الطريق. ينضاف إلى ذلك، وهو المهم في خاصية الإيقاع، هذا القلب الذي منح النص موسيقاه الداخلية. قد لا تشعر بكل هذا الجمال إن تلقّيت شعريّته في أفق جمالي يشترط مقومات خارجة عن شرط الشعرية الذي يستند عليه جان كوهن وهو ما يجعل، في نظره، الشعر شعرا، تلك الخاصية التي لا تقبل النفي ولا النقض، ويقصد بها أن تكون الجملة الشعرية عصيّة على النفي، وهذا قريب من تصوّر البلاغيين للإنشاء في مقابل الخبر، حيث لا يحتمل الصدق ولا الكذب كما يحتملهما الخبر، وفي هذه البنية الإطلاقية تحديدا يبرز جوهر الشعر، فالجملة الشعرية لا تستطيع أن تعارضها أو تنفيها، لأنها خارج مجال التداول الواقعي الذي يصدق عليه النفي، فمجالها إيقاظ الشعور وتحريك الوجدان وتحويل الكلمات نفسها إلى أشياء لا علامات تحيل إلى الأشياء. وعلى هذا التصور يكون للغة الشعرية مستويان، خارج تتشكّل به اللغة بالدلالة عليه، وهي مرجعية ضرورية، وداخل تتشكّل فيه اللغة بالدلالة به على تجربة جديدة خارج العالم الواقعي داخل العالم الوجداني للشاعر، وهذا وحده ما يجعل السائر متبوعا والطريق تابعة!