سمرقند وطشقند وما بينهما

رحلة على طريق الحرير القديم.

عندما يطالع المرء خارطة دول آسيا الوسطى، ويتأمل في كثافة الروابط التاريخية والثقافية التي تجمع محيطنا العربي والإسلامي بها يتألم، لكون تلك الخارطة نائية عن أفقنا السياسي، وعن مشتركاتنا الاقتصادية، ولا تقع ضمن وجهاتنا السياحية إلا من خلال مبادرات فردية ضئيلة الحجم والتأثير. «أوزبكستان» استقلت عام 1991م وهي تحتضن عددا من أهم المدن العريقة، والأمل أن تتجدد شراكاتنا وتتقاطع مصالحنا معها. التقيت بالشاعر والمترجم الأوزبكي «عزام عبيدوف» لأول مرة، على هامش مهرجان القاهرة للكتاب في يناير الماضي. تبادلنا تحيّات خافتة وسريعة، كما هي مناسبات مهرجانات الكتب العربية، ثم افترقنا في ردهات المعرض الكبير الممتلئ بالزوار، ودور النشر، وقاعات الندوات، والفعاليات التي تبدأ ظهراً ولا تنتهي قبل التاسعة مساءً. وأختصر القول هنا بأن لا معرض عربي يزخر بالحيوية والحماس والتنوع والصخب كما هو معرض القاهرة، أدركت هذا منذ مطلع الكتابة أوائل الثمانينيات ولم يتغير انطباعي حتى هذه اللحظة. بعد أقل من شهر، وصلتني دعوة من عبيدوف، مدير مبادرة ثقافية تسمى “”UzLAB، للمشاركة في أيام استكشافية وأدبية عبر أوزبكستان، تمتد لأسبوعين. ولأن الدعوة لم تكن من جهة ثقافية رسمية، بل يطغى عليها الجانب الشخصي، فقد تبادلت معه رسائل مفصلة عن طبيعة المهمة، وعن المدن والمعالم التاريخية التي سنزورها، وعن الأماكن التي سنلقي فيها قصائدنا. اتضح سريعاً أن إقامة الضيوف القادمين من دول عديدة ستكون في منزله، ومنازل أصدقائه من الشعراء والمسرحيين والمترجمين، وأنهم ملتزمون بمتطلبات الضيافة، فيما يتوجّب على الضيوف شراء تذاكرهم، وتحمّل هدايا السفر ومفاجآته أحياناً..!. أما باقي المشاركين في الرحلة فهم: محسنة أردا (تركيا)، وإيرينا كوبالد (أستراليا)، وكييو بيش هاو (فيتنام)، وبويان أنجيلوف (بلغاريا)، وأتيلا ف. بالازس (رومانيا)، وهنريتا سوموجي (سلوفاكيا)، وشاقنام إركمن (تركيا)، وجورما كاستينن (فنلندا)، وكوبانشبيك مامارايموف (قيرغيزستان)، ومهر الدين أوتيجنوف (كازاخستان) ورحيلا صدّيق (أوزبكستان). لا توجد رحلات مباشرة من الدمام إلى طشقند، عاصمة أوزبكستان، ولذا فلا بد من التوقف في دبي، وإن طال السفر. وهكذا توجّب أن نتنقّل من صالة سفرٍ إلى أخرى في مطار دبي المترامي الأطراف لأكثر من ساعة، لنجد أنفسنا وقد حشرنا في الطائرة المغادرة إلى طشقند. استقبلنا صديقنا في المطار، حوالي الثالثة صباحاً. وكنت محظوظاً بالإقامة في منزله أنا، وكاتبة روائية تركية هي تشاغنام إركمن، قبل أن تنضم إلينا الكاتبة البلغارية ماريا فيليبوفا هاجي بعد يومين التي سنكتشف أنها قد زارت أوزبكستان مراراً وكتبت كتاباً أفردته لتاريخ ومعالم هذا البلد. بما أننا أقمنا في ضاحية قريبة من مطار طشقند، فلم نشعر بإيقاع المدينة الجارف كثيراً، لكننا ونحن نعبر إلى قلب المدينة لنستقلّ قطارها الأرضي، شهدنا الحشود الخارجة من أعمالها، أو في طريقها للتسوق أو النزهة. “طشقند” مدينة تاريخية عريقة، كانت إحدى المحطات الواقعة على طريق الحرير القديم، ولا زالت بعض معالمها القديمة حاضرة. ولولا أن زلزالاً مدمراً ضرب هذه المدينة عام ١٩٦٦م، لاحتفظت هذه المدينة بكل خزائنها الأثرية والعمرانية الفائقة الجمال وزخمها من المساجد والقصور والقلاع. ورغم جراحها، فإنها تعدّ المدينة الأكبر في وسط آسيا بكثافة سكانية تقترب من ثلاثة ملايين نسمة. ونحن نتجوّل بين محطات المترو الأرضية، يقول لنا مرافقنا إن ذلك الزلزال قد دفع المهندسين السوفييت، حين كانت أوزبكستان جزءاً من الاتحاد السوفيتي، إلى تأسيس شبكة مترو متينة وشاملة، تربط بين أطراف المدينة، وسهّلت الحياة اليومية للناس، وجرى تصميمها على نمط مترو موسكو الشهير. لكن ما يخلب نظر الزائر هي المجسّمات والجداريات الفنية التي كسَت جدران تلك المحطات، بينها تماثيل مصغرة لجنكيز خان، وتيمورلنك، ورائد الفضاء غاغارين، والشاعر علي شير نوائي، فضلاً عن الأعمدة الرخامية، والأرضيات المطعّمة بالزخارف. مدارس العلم والفن “مدرسة كولكيداش” هي واحدة من معالم طشقند، وهي مدرسة علوم إسلامية بُنيت في القرن السادس عشر من الآجر الطيني والخزف، وزُيّنت بوابتها العالية بتصاميم السيراميك والآيات القرآنية، ومنحتها المنمنمات لمسة الفخامة والزهو. وعندما نعبر البوابة المهيبة، نجد الفصول الدراسية على الجانبين من الطابق الأرضي، وكان الطلاب يدرسون فيها علوم القرآن والفلسفة والأدب والتاريخ والجغرافيا والحساب والفلك والرياضيات، أما غرف الطابق الثاني فقد خُصصت لسكن الطلاب. وقد ضرب زلزال هذه المدرسة في القرن الماضي، وبقيت مهدّمة حتى أُعيد بناؤها في منتصف القرن العشرين. لكن هذه المدرسة وأمثالها على طول أراضي ما وراء النهر القديمة كانت شاهدة على عظمة الفكر الإسلامي وسعة أفقه وتنوّعه، فقد أنتجت قائمة من العلماء والمحدّثين والمخترعين الذين أسهموا في بناء الحضارة الإسلامية، مثل: ابن سينا، والبيروني، والخوارزمي، والبخاري والترمذي وغيرهم الكثير. شاعر الأوزبك الأعظم في الحدائق العامة في طشقند، وجدنا احتفالاً صامتاً بوجوه ثقافية أوزبكية مجسّمة وملهمة، بينهم: عبدالله أفلوني وعبدالحميد شولبون وعبدالله قادري وحامد علمجون، ومجسم يمثل أمّاً وأباً يحمون أبناءهم من هول زلزال طشقند، وموسيقيون أعدموا لمقاومتهم الهيمنة السوفيتية أواسط القرن الماضي، وشخصيات أخرى. لكن الشخصية الأكثر إلهاماً وتبجيلاً هي للشاعر “علي شير نوائي”، الذي يعد أباً للأدب الأوزبكي. أغلبنا لم يعرف عن أسطورته وآثاره إلا حين بدأنا جولة التعرف على رموز المدينة وتاريخها، فوجدنا له مجسماً بارزاً وسامقاً وسط تلك الحديقة، ووجدنا أغلب زوارها يقفون إجلالاً له، ويقرأون بعض حكمه وأشعاره المنقوشة ثم يمضون. نوائي شاعر وعالم وفنان ورجل دولة، واعتبر في منطقة إقامته شخصية ملهمة تنتمي إلى عصر النهضة الذي أنجب ليوناردو دافنشي. وهو متعدد المشارب فقد خاض في العلوم والفلسفة والفن والميدان الاجتماعي، وعمل على مساندة المواهب من الرسامين والشعراء والمعماريين والمؤرخين. وُلد في “هرات” الأفغانية اليوم، لكنه أرسى في هذه المدينة، خلال النصف الثاني من القرن الخامس عشر، دعائم ثقافة إنسانية جديدة، فازدهرت في المدنية الأفكار الفلسفية المتقدمة والعلوم والفنون. كتب نوائي ملاحم عديدة، أشهرها: “فرهاد وشيرين”، و”ليلى والمجنون”، بعضها بالعربية وأخرى بالفارسية والهندية. أثناء زيارتنا لتمثاله الضخم هطل المطر فاحتمينا بمظلته الرخامية العالية. قرأنا بعض أشعاره، ثم غادرنا الحديقة. يقول في قصيدته “ليلى والمجنون”: «بسَط العنكبوت خيوطه الطويلة ليسْتر العاشقين نامتِ الهوام في البراري سكَنتِ الوحوش ولم تعد تأبه بفرائسها وكفّتِ الحيوانات الصغيرة عن العواء تراجعت قوى الطبيعة وغدت فجأة هادئة” لم تَنحصر طاقات هذا الشاعر “نوائي” في المضمار الأدبي والفني والفكري فقط، بل تمكّن بفضل أحواله المادية الميسّرة من بناء أكثر من ٣٧٠ جامعاً ومدرسة ومكتبة، ومن تأهيل القوافل على طرق خراسان القديمة. واليوم هناك منطقة تقع في الوسط الشمالي لأوزبكستان أطلق عليها اسمه: و”منطقة نوائي”، هذه ذات اقتصاد يعتمد على التنقيب عن الغاز والبترول والمعادن النفيسة كالذهب، الذي جعل أوزبكستان التاسعة عالمياً في إنتاجه، وهو ما شكّل جاذباً استثمارياً للشركات الأجنبية. سمرقند الساحرة أعتقد أن سحر هذه المدينة، وعمقها التاريخي ومعالمها السامقة، تكفي لكي يشدّ السائح رحاله إليها، ليقيم قليلاً ويملأ ناظريه وروحه بتلك الأعاجيب الفنية المدهشة، ويسترجع في الوقت ذاته سير القادة والرحالة والقوافل التي سارت على درب سمرقند. بعض فصول تاريخها دامٍ ومدمّر، فقد تعرّضت للغزوات والتدمير والنهب، وبين أقسى الحملات كانت حملة جنكيز خان وجنوده المغول الذين أحرقوا بخارى وسمرقند وجاراتها ثم غادروا. ويروي الرحالة ابن بطوطة، الذي زار سمرقند عام ١٣٣٣م، أنها “مدينة من غير أسوار ولا أبواب، قلاعها وقصورها مدمّرة، لكنها واحدة من أكبر وأجمل مدن العالم”. في قلب سمرقند الحديثة، التي تعج بالمركبات وسكان المدينة والسائحين، قطعنا بطاقات الدخول ودلفنا عبر البوابة إلى ساحة راجستان الواسعة، ما أن نتوسط الساحة حتى نكون أمام ثلاث بوابات ضخمة: أولها “مدرسة أولوغ بيك”، وهو حفيد تيمورلنك وأول من بنى مرصداً في العالم الإسلامي فوق هضبة خارج سمرقند، وثانيها تيلا كاري التي استغرق بناؤها ٢٥ عاماً لتكتمل عام ١٦٦٠م، أما الثالثة فهي “مدرسة شير دور”، وتسمى أيضاً “مدرسة الأسود”، وقد بنيت في القرن السابع عشر الميلادي. وحول هذه الساحة هناك “جامع بيبي خانم”، الذي بُني ليكون الجامع الأكبر في وسط آسيا، ثم “مقبرة شاه زنده” بقبابها وبلاطها الفيروزي، التي تعود إلى القرن الرابع عشر. لا يمكن سرد تلك المعالم الكبيرة والصغيرة بين مدارس ومساجد ومقابر وأضرحة وجداريات وأقواس كلها تنطق بسحر الفن الإسلامي، بألوانه المتناغمة، وببلاطه المتعدد الأشكال، وبرسوماته الشجرية والزهرية. ولكن حين يقعد الزائر على الدرج المطل على ساحة ريجستان، ويرى البوابات الشاهقة التي تعانق السماء، يشعر للحظة وكأنه يسبح في الأزمان السالفة التي مرت على هذه المدنية الخالدة. هناك تكامل نادر بين الألوان السماوية وبين فن المنمنمات الذي ترعرع في هذه المنطقة من العالم، وهناك التلاقح الفريد الذي دمج الأساليب الفنية الفارسية بالفنون الهندية والأوروبية ومناطق حوض تركيا القديمة. هذه التفاعلات التي توطدت خلال عصور أسفرت عن تحف معمارية تتوّجها الآيات القرآنية التي كتبت بأجمل الخطوط العربية وبقيت حتى اليوم عناصر إبهار إبداعي لكل زائر. خلال الرحلة زرنا مصنعاً للسيراميك في ريشتون، شرق أوزبكستان، وهناك تجولنا في المصنع الذي يضم أجمل التحف والقطع والأواني والمصنوعات الممهورة بأنامل صانعيها من الشباب والشابات الذين حافظوا على هذا الفن الذي يمكننا مشاهدته في الواجهات والبوابات الإسلامية التي أدهشتنا في طشقند وسمرقند. قيل لنا أن الطين الأحمر المحلي الذي تميزت به ريشتون والذي يستخدم في المصنعات الخزفية هو ما يجعل هذه المدينة الصغيرة واحدة من أشهر معالم أوزبكستان. لو نهض “تيمورلنك” من الموت لم ندرس عن تيمورلنك سوى أنه كان قائداً دموياً باطشاً بكل الأمصار التي مرت عليها جحافله، ويقال أن طباعه لا تفترق كثيراً عن وحشية جنكيز خان لكنه عاش يحلم باستعادة دولة الأخير. تنتصب مجسمات تيمورلنك في عدد من الميادين، أولها كان فى حديقة ضخمة في قلب طشقند، ويجري الحديث عنه بين الأوزبك كفاتح عظيم استطاع أن يعيد بناء المدن التي تم تدميرها على طريق الحرير، والتاريخ يدوّن أنه أقام منارات من جماجم سكان بغداد وحلب وأصفهان وتكريت ودلهي، لكنه يذكر أن الفتوحات التي صنعها من سور الصين إلى البحر المتوسط قد أغرته بأن يشرع في بناء مدن إسلامية ترتبط باسمه، وأولها سمرقند التي استقدم لها أهم البنّائين والنحاتين والخطاطين من كل البلاد التي فتحها من الشام وفارس والهند وتركستان وبلاد النهرين وأذربيجان وتركيا. وهكذا غدا جزءاً من جمال وسحر سمرقند وغيرها من المدن خليط من الهويات العربية والفارسية والتركية والهندية، وهو ما شكّل الفسيفساء الباذخة التي نراها في سمرقند اليوم. كان تيمورلنك أعرجاً، ويقال إنه كان يُخفي عرجه هذا، إلا أن بعثة روسية زارت عام ١٩٤١م قبره في سمرقند، ولدى فحص هيكله العظمي تأكدت هذه العاهة، ووجدوا كتابة منقوشة على تابوته تقول: “عندما أنهضُ من الموت، سوف يرتعد العالم كله”. بين مدن طشقند وسمرقند ونامانغان وأنديجان وجيزاك كانت الجولة ثرية، لكنها متعبة أحياناً لرداءة الطرق ولقلة الرحلات بالقطار إلى تلك المدن وما بينها، وأزمة الطرق هذه تنعكس على شكل حوادث مؤلمة، وتجعل الزائر يعيش في قلق دائم. ألقينا أشعارنا في معاهد حكومية، ومعاهد فنية، ومراكز لغات انجليزية، وألقى شعراء أوزبكيين قصائدهم أيضاً. أستقبلنا الطلاب والطالبات في تلك المعاهد بالأغاني والرقصات الأوزبكية التقليدية، وبسطوا أمامنا الموائد الحافلة بأطايب المأكولات المعروفة، وهي في أغلبها وجبات نعرفها فى الخليج، وهناك أصناف لم نراها إلا على موائدهم. الضيافة الأوزبكية المعروفة كانت محمّلة بدفء يندر أن تجده لدى الأمم الأخرى، وهو تعامل إنساني يسمو بالروح، ويخلو من أية تفرقة دينية أو قومية أو مذهبية. عزام عبيدوف والذين معه لا يكتمل هذا السرد دون الحديث عن مضيّفنا “عبيدوف” وأهله. لم يكن سهلاً علىّ أن أسكن في منزل مضيفنا، لكن الجو العائلي والمودة الغامرة التي لقيناها من زوجته، وأبنائه الثلاثة كانا كافيين لنقضي معهم أيام هذه الرحلة النادرة. عزام، شاعر ومترجم من الأوزبكية إلى الإنجليزية وبالعكس، يعمل بمهارة عالية، ويدير وقته بحكمة وصبر نادرين. تولى كل احتياجاتنا اللوجستية بما فيها الأسفار والتنقلات، إضافة إلى دوره كمرشد ثقافي ويجيب على أسئلتنا المجهدة حول ما نشاهده من معالم ومواقع وآثار وأسواق ومتاحف بأريحية وعزيمة صادقة، وبحبّ لا ينفد لأرض أوزبكستان وخزائنها الفريدة، وهو حبّ أهْرقه في قصيدته: “أنا أوزبكستان”. لولا عزيمة “عزام عبيدوف” الصلبة، وصلاته الواسعة بأدباء وفنانين من دول العالم لم يكن لنا من حظ لاكتشاف هذه البلاد وأهلها الطيبين وتاريخها الممتد إلى خمسة قرون قبل الميلاد. * الصور بعدسة كاتب المقال.