‏«غيوم امرأة استثنائية» لـ«أحمد الدويحي»:

‏جسد بين ضوءين .

‏في رواية أحمد الدويحي «غيوم امرأة استثنائية» (عن دار جداول 2013) يمثل الشخصية الرئيسة (فيصل) نمطاً من الرجال الذين جاوزوا مرحلة الكهولة بسنين، وعلى رغم ذلك لازمهم ضوء الحياة على الصورة التي تعكسها وقدة أبناء الثلاثين. صحيح أنه أخلد به جسده إلى الراحة والسكون، لكنه خلود اضطراري نشأ رغماً عنه بسبب الأمراض والعلل الصحية. فالعمر، إذ يحصد المزيد من السنين، دون تردد، إنما يقوم بذلك على طريقة المغامرين الذين يجازفون بحياتهم على رغم اضمحلال فرص النجاة. ذلك أن الفرصة السيئة التي تنتظرهم، إن تراجعوا، تكمن في فشل فكرة المغامرة ذاتها ومن ثم تفشل طريقة العيش برمتها، وعندئذٍ يمتنع وصفهم بالمغامرين. العمر لديه إقدام «السايبورغ» في اتجاهه الوحيد الذي لا يحيد عنه، وهذا النمط من الشخصيات الخيالية المخترعة سينمائياً جاءت في فيلم “المبيد” الذي أخرج نسخته الأولى جيمس كاميرون عام 1984 ويتمحور إقدامه على الفعل في أنه مبرمج على تنفيذ ما كلف به حتى النهاية، ولو أدى ذلك إلى القضاء عليه شخصياً، وهذا ما حدث بحسب القصة في خاتمة الفيلم. إن جاز التشبيه، العمر من هذا المنظور “سايبورغ” زمني ليس أمامه خيارات أخرى مثل التوقف التكتيكي موقتاً أو إعادة ترتيب بعض الأحداث وقفاً للحاجة إليها في زمن ما. وفي صورة أخف وطأة، وأقرب إلى التصور الإنساني، يمتلك العمر جرأة إطفائي يحاول مكافحة النيران المندلعة من حوله، مع فارق أن الإطفائي يناور النار بما أوتي من خبرة لينجو منها قبل أن تقضي عليه، وهذا ما لا يتاح للعمر بالنظر إلى ارتباطه الوثيق بالإنسان الذي يعيشه، بالجسد الذي يتأثر به، والصدمات التي تتشكل فيه وتؤثر فيه وتلونه بألوان التعب والشيخوخة والهرم والوحدة. ‏المزيد من العمر يعني المزيد من الخسائر للجسد، وما الهرم في شفقه الأحمر الذاوي إلا خلاصة القصة المفضية إلى هذه النهاية، لا خيار آخر لأولئك الذين يبلغون هذه المرحلة من العمر. الأمراض، العطالة العضوية، الآلام المبرحة، القصور الحيوي في بعض الأجهزة، وعلى رغم ذلك يتقدم العمر ويمضي بجسارة كبيرة إلى حافته ومن أضيق نقطة ينتهي. أدرك فيصل من دون اعتراض حقيقة المطرقة الزمنية وأثرها العميق في الكتلة البيولوجية التي تحمله «وبقي جسده العاجز مطروحاً على رصيف الحياة». ‏ولذلك لم يجادل في هذه المشكلة بل عايشها، وإن مرغماً، بالتغاضي عنها تارة، وبتعاطي الأدوية التي تجعلها محتملة تارة أخرى. غير أنه من قبيل التعويض وتخطي الأزمة، انتضى هبة الحلم الكامنة فيه فانطلق بخياله إلى ما هو أبعد من فيصل المأسور في جسده، انطلق بفيصل آخر يحلم ويشتاق ويهفو بكل قوته إلى انعتاق أبدي، ما أمكن، من قيده البيولوجي. ووجد إضافة إلى هبة الحلم، هبة تقنية مذهلة توافق انعتاقات ليلية يحلم بها وهي مواقع التواصل الاجتماعي ونوافذ الدردشة الخاصة، فكانت بمثابة طريقة جديدة في اختراق الحلقة الراكدة التي أوثقته إلى نمطه القار بنوعيه الجسدي والاجتماعي. وكانت المصل الذي حقنه بنفسه في نصفه «الآخر الحالم الذاهب إلى المستقبل»، نصفه المترحل الذي «يركب العربة الأخرى إلى المستقبل، يتأمل، ويحلل، ويسأل، يقرأ المستقبل الذي انتظره طويلاً». هكذا بحيلة هزلية فلق نوى الكينونة المتشكلة من المادة والروح فأزاح إحداهما عن الأخرى منتضياً النصف الأقل كلفة في «مساريه» التواصلية على مساحة كبيرة من الشبكة العنكبوتية. فيصل، إذاً، بعثر الحالة التصالحية الرخوة التي كانت سائدة بين جسده وأشواقه، أو بين جسده وضوء الحياة الذي يمسك به، بعثرها بقوة، لكنه لم يفرط في استخداماتها التالية. ركب منها حياة افتراضية تتغذى بها ومنها عاطفته وخياله وقلبه. ‏ركب منها حوارات شتى عبر الإنترنت، أهمها وأخلصها إليه حواراته الليلية مع الاسم الرمزي «ليلى»، التي راحت تطبع حياته بطابع عاطفي إدماني يكشف الكثير عن حياة الاثنين، ليس فحسب على الصعيد الرومانسي الذي يحدق به العجز واللا أمل من كل صوب، وإنما أيضاً على صعد اجتماعية وثقافية وسياسية وأكاديمية وما إلى ذلك. وكأنما كانت «ليلى» في العالم الافتراضي مجرد انعكاس طيفي لا يعد بتجسدٍ ما في حالته النتية، وهي بهذا التمثل تكون أقرب إلى «قطع غيار» تسد نقصاً في جهاز المتعة الهش عند فيصل، كأنما هي غارات ذئبية تتسع وتضيق في خلوات متتابعة لقطع الطريق على عودة الجسد إلى امتلاك الحقيقة التي لا مفر منها على أية حال، أن تكون له القيادة في تشكيل اللعبة التي طالما خشي منها، أن يكون هو المكافأة البخسة التي تنتظره في نهاية الرحلة الحلمية، وحينئذٍ لن تكون هناك قيمة لانقسامه المزعوم بين مادة وروح. ولتكن بين حبسة جسدية ورغائب متمردة على الأفول الجسدي، فهذه أيضاً يخشى فيصل أن تسطو خاتمتها على حلمه أو على نصفه المسافر إلى المستقبل لفائدة نصفه المرتكس إلى الحاضر. فهناك دوماً هذا الخوف من الواقع الملجئ إلى الامتثال لحقائقه الصعبة في نهاية المطاف، وما الحلم إلا أصغر من جناح طائر في وسط حريق متفاقم، إن خفق باتجاه الحريق زاده استعاراً، أما إن رفرف محاولاً الابتعاد فإن ضآلته تمنعه من الاطمئنان لفكرة النجاة. ‏تتسع الرواية لأكثر من هذه الومضة بالتأكيد، ويتسع أفق فيصل لأكثر من فضاء، فهو إلى جانب ما ذكرنا أعلاه، تغتني شخصيته بحكائية ملحوظة، ففي كل امتياح سردي عن شخوص ثانويين نجده يفتح مساراً حكائياً سيال الحضور، لكنه لا يطيل التوقد فيه، بل يوقفه عند نقطة ليست ببعيدة عن المفتتح، وتتوالى دوائر الفضاءات الحكائية الهامشية على هذا النسق، ما يصقل وجه الحكاء الأصيل في هذه الشخصية لكنها تمارس عليه قمعاً ربما استدعته سياقات اللحظة الاجتماعية وحساسية ما هو وراء المكتوب. ولعل أحد خيوط الضعف في رفع الحالة التعبيرية إلى مستوى جمالي أكبر هو حياكة اللغة بصورة تقريرية في كثير من المشاهد، هناك شح في أخذ القارئ الجمالي إلى اللغة الأدبية العالية والخيال المحلق من جهة، وتشذيب النص وتهذيبه من جهة أخرى. هناك أيضاً، الشخصية الأخرى، بندر الذي يتشابه مع فيصل في بعض الوجوه، وهو شخصية لها اندياحاتها اللافتة في النص، ما يضعها في محل تساؤل من وجهة نظري حول ما إن كانت هذه الشخصية كتبت لتكون موازية للشخصية الرئيسة في نص آخر مستقل عن هذا النص لكنها لسبب ما أدمجت معه في كتلة واحدة، وذلك قد يستدعي سؤال لماذا المماثلة وليس الاختلاف هي الخيار المقترح، أم أن الشخصية الظل هي ما اقترحه الحضور المركزي المكثف للشخصية الرئيسة بحيث تبدي ألوانها الاجتماعية والثقافية دون مزاحمة تذكر. الرواية بالنسبة إلى زمن نشأتها تختلج بعدد من القضايا والهموم الآنية في أشكال متنوعة، سياسية، ثقافية، اجتماعية، وتذكر وقائع لم يمضِ على حدوثها سوى أشهر قليلة بالنظر إلى تاريخ صدور الرواية، ما يكفي لنعتها بالرواية الطازجة في وقتها، إن جاز النعت.