«طريق الحاج» لعمرو العامري:

ملحمة البحث عن الذات والوجود.

حملني عنوان رواية «طريق الحاج» للروائي عمرو العامري للغوص في بنيتها والتحليق داخل فضائها السردي الممتع في قراءة تأملية لواقعية سحرية مثيرة، تصاعد في أحداث الرواية يتوازى مع سير الخط الزمني في توافق جيد وربط رائع وتوثيق متسلسل للأحداث. الجملة الأولى في الرواية بعد العنوان «أعتقد أن عمر السبعين ملائم جدا لأن يموت الإنسان» استهلال يستفز القارئ لاستقصائها والبحث فيما ورائها فمنذ البداية نجح الكاتب في توظيف لغته العالية الجودة في السرد والتوصيف. انتصب خليل الأول في طريق الحاج وأخذ يتلمس الطريق والأماكن التي يمر بها حتى اختار المكان الذي رآه مناسبا للاستقرار، وضع الأساس عندما اقتسم له قطعة أرض امتدت ليطلق عليها اسم القاسمية، ثم حفر بئر أطلق عليها الناس الخليلية نسبة إليه، بينما أطلق عليه السكان الأصليين اسم خليل الشامي لأنه قدم عليهم من شمال ديارهم، خليل الأول الذي وضع بذرة التغيير حين ارتحل بعائلته الصغيرة في قرار لا رجعة فيه، انتزع جذوره من أعماقها ليغرسها في مكان غريب عليها، ما لبثت حتى امتصت الصدمة وعادت للنمو من جديد، هذا الخليل الذي تحمل المشاق منذ أن كان في قبيلته وبين أفراد عشيرته، ظل حس المسؤولية يطارده في مختلف مراحل حياته. ولعلني أقفز بين السطور وأتجاوز خليل الأول لأصل إلى عمق الحكاية عندما وصف الراوي حالة علي بعد حواره مع أخيه عرار: « وعندما لم يجد نقطة يلتقيان فيها تركه وانشغل بتدبير شؤون حياته وشعر أنهم لم يفقدوا عرار يوم غادر، بل فقدوه بعد أن عاد». إشارة إلى التحول الكبير في حياة عرار الذي لن ينسجم مع حياة كانت، لأنه عاش حياة أخرى وتلبس فكر آخر ولا يقلب الموازين في حياة الإنسان إلا التغيير الفكري، يقول الفيلسوف اليوناني هيراقليس: «التغيير بحد ذاته أبدي ودائم لا يموت» وعزز الألماني شوبنهارو هذه المقولة بقوله: «ليس البقاء للأقوى، أو الأذكى، إنما للأكثر تكيفا مع التغيير». وهذه المقولة هي الثيمة الأساسية التي قرأتها بين سطور الرواية، حيث الإنسان المتحول والقادر على التكيف مع التغيير، وقولبة أفكاره وإعادة صياغتها بناء على الاتجاهات والتحديات الحتمية التي يواجهها، هذه الزحزحة الفكرية التي تعبر عن الإرادة الحرة التي تقود صاحبها إلى العمل والسعي الدؤوب للوصول إلى نقطة جديدة، التحول الذي يدهشنا في كل مرة نكتشف فيها شيئا مختلفا. أما رحمة زوجة خليل الأول التي تحملت معه المشاق، وأعانته وكانت خير سند له، حتى لو لم تكن راضية عن بعض قراراته، مع سرعة فهمها لبعض المؤشرات في عدم رغبة زوجها العودة لديارهم الأولى، والتي تجلت في شراء البندقية، هنا ثبت لديها أن ليس لديه نية عودة قريبة، وهكذا أعدت نفسها لتقبل مشوار حياتها الزوجية بالرضا والقناعة، وقامت بزراعة شجرة حنا وريحان. استطاع عمرو العامري أن يحفر في ذاكرة من قرأ رواية طريق الحاج نقاط مؤثرة لا يمكن نسيانها، واستخدامه لتقنية الوصف الجذابة والتعبير عن الحالة الإنسانية المتطورة بالفعل. رغم تعدد الشخصيات داخل الرواية والانتقالات المكانية والزمانية، إلا أن ترابطها لم يتأثر أو يختل، فقد أعطى كل شخصية تفاصيلها كاملة مما يمتع القارئ ويتيح له تجسيدها في ذهنه ليتماهى مع كل شخصية ويتعمق في الأحداث أكثر. استطاع العامري أن يجمع المتناقضات لتمضي المواقف والأحداث بسلاسة، يواجهنا صخب وعجاج السنين، تفاعل الإنسان مع الإنسان، الرفض والقبول، وصراع الحياة في ذروته وهدوئه، ونفوس لا ترضى بما هو متاح وتبحث عن المجهول الذي تريده ولا تعرف سمته. في طريق الحاج الشاعرية الساكنة في الأعماق، والتي تدور مع دورة الحياة الصامتة، مع «توالي النهار والليل وتشابه الأيام» وألم الفقد الذي ربما يحضر في الوجود أكثر منه في الغياب. قدرة الكاتب على تشكيل الأحداث وتسلسلها باختصار الوقت للوصول لنتائج التفاعل الإنساني، والاكتفاء بقفزات منظمة للحدث للوصول للغاية، التنقل في متوالية انسيابية تمر عبر زمن طويل في ومضات زمنية قصيرة، عبارة عن إضاءات على المحتوى في حديث موجز. وفاة خليل الأول، زهايمر رحمة، تضحية حالية، ومروءة الشيخ طحان، حلم عقيل وطموح طامي، هزيمة عائشة عندما كبرت وبانت معالمها، وشذرة حب في قلبها أزهرت ثم ذبلت، صراع علي وعرار، ومسفرة التي وقفت شامخة وسط الجحود والإهمال من قبل زوجها عرار وتفضيله عليها من تقل عنها عقلا وثقلا، وقرارها بالانسحاب من حياته، واكتفائها بالتلذذ بانتصارها في تربية أبنائها، رمل ورماد، ونفوس كادحة، وتساؤلات تحاصرك بعد الانتهاء من قراءتها، فالحياة لا تعطيك كل شيء. رواية دسمة حافلة بالكثير من الأحداث والمنعطفات والانتقالات الزمكانية، وغوص في هوية الإنسان ومدى تكيفه مع المكان. اعتمد الكاتب في تحريك الأحداث داخل الرواية على الراوي العليم، يدير المواقف بين الشخصيات بذكاء شديد وأحيانا مع الانسجام والحماس يتدخل في استشراف ما سيحدث في المستقبل؛ «ولو أنهم قرأوا الغيب لشاهدوا أن مصيرهم الاغتراب، لكن كل واحد بطريقته». في رواية «طريق الحاج» الكثير من الثنائيات المتناقضة؛ حلم رحمة بالعودة، استقرار علي واغتراب عرار عقل طامي المتضخم بالمعرفة وحياة عائشة الفارغة إلا من خيالات تلاعبها بلا هوية. عندما يصغر المألوف في فضاء اللامألوف وتتعدد مساراته، وتعصف الأفكار الجديدة بالأحلام المؤجلة، والتحول وسط شمولية الحياة، وتعدد المهام. قراءة عجلى لرواية زاخرة بالمعطيات الكثيرة، التي شكلت هويتها، تستحق الدراسة والتمحيص، والخلاصة أن الإنسان مهما حاول أن يغير العالم وانشغل عن نفسه لابد أن يعاوده الحنين للجذور، للعتبة الأولى وإن طمرتها السنين، للأصالة حتى يرتد مرة أخرى كالسهم إلى الأمام. *قاصة وروائية- سفيرة جمعية الأدب بالرياض