
ترجعُ ليليت الأسطورة إلى أصولٍ تاريخيةٍ قديمة، فتظهرُ على هيئة امرأةٍ متمردةً على الرجال وسلطتهم الذكورية، وتسعى دومًا إلى الانتصار للأنثى، وإثبات ذاتها وأناها. كانت سابقًا تعبّر عن القوة الكونية للخلود الأنثوي، ولاحقًا تجلّت في انبعاثات عدة في النصوص الأدبية، فجاءت رمزًا صريحًا للأنثى الرافضة لسلطة الأخ أو الأب أو المجتمع، تلجأ تارةً إلى إزاحة الرجال من طريقها، وإظهار القدرة والقوة والتفوق عليهم تارةً أخرى، فتعلنُ بشكلٍ قاطعٍ مساواتها مع آدم الرجل. وقد أشار الكاتب في مقدمة الرواية إلى بعض الميثولوجيات القديمة والأساطير التي صوّرت ليليت بنسخٍ مختلفة، لكنّه رفع الستار كي يرينا شخصية المرأة الطموح التي تشكل مصدر قلق للمجتمع الذكوري، وتُظهِر تناقضات الصورة الأنثوية بين ليليت وحوّاء. وليليت الكاتب هنا، تتمظهر في شخصية الدكتورة جواهر، المرأة التي ظُلمت من قبل إخوتها الرجال، وحُرمت هي وأمها من الحصول على حقهما كاملًا من ميراث والدها الثري، فقررت الهجرة إلى أمريكا ليس طمعًا بالحصول على المزيد من المال، بل طلبًا للمجد والخلود، فلمعتْ كلؤلؤةٍ متوهّجة في الطب، وكانت مثالًا يحتذى به في العلم والإنسانية، وهذا ما أكّده الأستاذ عبد اللطيف بن إبراهيم العجاجي حين قال: “الهجرة ليست اختيار الجميع، الهجرة فقط للأقوياء”، نعم جواهر القوية البطلة، ابنة ليليت بل ليليت بنسختها السعودية، التي تتطلع دومًا للأفضل، تشعر دومًا أنها لم تنل السعادة الكاملة التي كانت تنشدها ولن تنالها، وستظل بنظرها ناقصة مهما فعلت، وهذا بحد ذاته حافز إيجابي وحقيقي، ومؤشر عافية نحو تحقيق الذات بصورة مثالية. ليسَ غريبًا أن يأتي العنوان: “ابنة ليليت” بدلًا من “ليليت”، صحيح أن الكاتب في هذه الرواية أراد لجواهر أن تكون صوتًا عربيًّا لليليت الأسطورة، لكننا لا نغفل أنه لجأ أيضًا إلى استخدام صوتين أنثويين في عملية السرد الروائي، تمثل الأول في صوت جواهر، والثاني بصوت ابنتها ميلا التي أخذت تتناوب وإياها على سرد أحداث وتفاصيل الرواية، وإن كانت بصورة متفاوتة، فتتجسدُ ليليت بنظري في شخصية جواهر، وابنة ليليت في شخصية ابنة جواهر التي لم ترَ أمّها، ولكنها فتنت بما عرفته عنها حتى وإن جاء ذلك متأخرًا، والتي بلا أدنى شك ستتخذ من أمها رمزًا للتمرد وعلامة فارقة بين النساء. فجواهر التي تنحدرُ من أب سعودي وأم هندية، وابنتها التي تعود أصولها إلى أب مكسيكي وأم سعودية، كلاهما تبدآن الصراع على الهوية بين الثقافات والحضارات، فيبرعُ الكاتب في الانتقال بين الشخصيات بما يناسب العمل السردي وكذلك في الأحداث بشكل ممتع يبعد القارئ عن الرتابة، ويشعره بتشويقٍ يدفعه إلى المتابعة من أجل معرفة ماذا سيحدث بعد هذا وذاك. وأستعيرُ عبارةً لفتتني في هذه الرواية على لسان جواهر حين قالت: “نحبُّ حياة البسطاء حين نشعرُ بالتعاسة، ولكننا حين نعيش نطمحُ إلى مستوى الأغنياء”، كانت جواهر رغم امتلاكها للمال والمنصب والجاه والنسب تعيش حياة البسطاء لأنها تشعر بالوحدة رغم وجود مئات الناس من حولها، وحرمانها من رؤية ابنتها جعلها تواجه القدر والظلم مرتين، فهي لم تعش بين أهلٍ وعائلة، ولم تتمتع بحياة أسرية هانئة، ولا حياة زوجية ناجحة رغم كل ما وصلت إليه من تفوق في الطب والعمل الإنساني، لكنها كانت تعوّض هذا الحرمان بالنهوض دومًا بعد كل انكسار لتكون أقوى من قبل، لتقول أنا هنا، أنا موجودة، أنا على قيد الحياة، أنا العنقاء التي تنهض من تحت الرماد، لتحلّق من جديد بعد أن قصّوا جناحيها، فتؤسس لمشاريع إنسانية واستثمارية تعود عليها بالمنفعة والمراكز والمال، كي تخصصه لاحقًا لمستقبل ابنتها. جواهر التي تتحول حياتها من الرياض إلى نيويورك، ثم لوس أنجلوس ويتحول معها اسمها من جواهر إلى جورجيت، تعيشُ أزمة الهوية بصورةٍ دائمة، حتى بعد عودتها إلى الرياض في نهاية المطاف، ورغم كل نجاحاتها الباهرة، إلا أنها لم تنجح في العودة إلى جواهر، أي إلى أصولها السعودية، عادت بجوازها الأمريكي لتقول لإخوتها الذين حاولوا تحطيمها في الماضي “أنا لا أريدكم”، ولا أريدُ الانتماء إليكم، ولا أريدُ أموالكم التي حرمتموني إياها، فقد وجدتُ ذاتي خارج المكان والزمان، خارج المجتمعات والثقافات والحضارات، وجدتُ ذاتي في النجاح الذي حققته، وفي الاسم الذي صنعته بدموعي وحرماني وانكساري، عدتُ إلى ترابٍ يحتضنني بعيدًا عن لوني وشكلي ومستواي. أما المفارقة التي صنعها الكاتب في هذه الرواية، فهي أنّه ختمها بصورة غير متوقعة، فأسدلَ الستار على خاتمة مثالية برزت في تصالح جواهر مع إخوتها، وعودتها إلى البيت القديم، ولقائها مع أمها وابنتها بعد سنواتٍ طويلة من الانتظار، وأوهمنا بأننا أمام مشهدٍ مُنتَظَر لنتفاجأ بعد هذه الخاتمة بمكالمة هاتفية تتلقاها ابنة جواهر من خالها الذي يخبرها بوفاة أمها جواهر قبل أن تلتقي بها، ونكتشف بعد هذه المكالمة أن العقل الباطني لجواهر أبى حتى اللحظات الأخيرة من حياتها إلا أن يكونَ متمردًا على الظروف، فخلق بذهنها أحلامًا لطالما تمنّت أن تحققها، حتى وإن وقف الزمان بوجهها. أختم مع عبارة لخّصها أمين جائزة الملك فيصل العالمية للطب، والتي حصلت عليها الدكتورة جواهر حين قال: “مجد الأفراد لا يصنعه الجاه والنسب والحسب، وإنما تصنعه أعمالهم العظيمة الهادفة إلى خدمة عقيدتهم وخير أمّتهم وبلادهم والإنسانية كلها”، نعم استطاعت جواهر أن تكون مفخرة لكل النساء السعوديات، فلم ينقصها حسبٌ أو نسب أو مال، ولكنها نظرت إلى ما هو أهم، وكرّست حياتها في سبيل الإنسانية. إن رواية “ابنة ليليت” للكاتب السعودي أحمد السماري والصادرة عن منشورات رامينا- لندن، تعكس ثقافة واسعة وغنية للكاتب، ولا شك أن هذه الثقافة ظهرت في مواطن عدة، فبرع في الطب والمحاماة والاستثمار والتاريخ والشعر وهذا ما رأيناه حاضرًا في شخصيات الرواية وتسلسل أحداثها، فنحنُ أمام عمل روائي متكامل يستحق القراءة والحفاوة.