«ترف الانكفاء» لـ وائل حفظي:

رواية بلا أسماء لزمن بلا حميميّة.

هذه الرواية ليست مجرد سرد للأحداث، بل هي مرثية وجودية تتجسد فيها مرارة العزلة بكل أبعادها. إنها رواية ذلك الألم المطلق، التائه في صحراء مشاعره، الذي لا يملك سوى نفسه وقرّاءه الذين يرافقونه في رحلة العزلة المظلمة. هذه الرواية لا تملك سوانا - نحن القرّاء - الأكثر عزلة منها. تتجنب الرواية عمداً الزخارف النمطية لمعظم الروايات الشرق أوسطية التي تعتمد على المشاعر الرومانسية، والإثارة الجنسية، أو العلاقات العاطفية المحرّمة وغير المحرّمة، أو الخطاب السياسي المباشر. حتى عندما تتحدث عن السياسة، لا تنطلق من منظور عام، بل من سياسة الجسد المنهك، سياسة الذات التي تختبئ في زوايا الغرف المظلمة لتحتمي من قسوة العالم. هنا يتحول “البطل” إلى كيان مجرد، شبح يطفو فوق النص حاملاً معه أسئلة الوجود التي لا إجابة لها. إلغاء الهوية ليس هروباً من الواقع، بل تأكيد على أن العزلة الحديثة تمحو الحدود بين الأفراد، وتحول المعاناة إلى لغة مشتركة بين من فقدوا بوصلتهم الانتمائية. العزلة في هذه الرواية ليست مجرد جدار يحاصر الشخصيات، بل هي نسيج وجودي يتخلل الذات والعالم، ويعيد تعريف علاقة الإنسان بكل ما حوله. الرواية، رغم إيجازها، تقدم سرداً مكثفاً يتحرك في مساحات ضيقة، مكتوباً بمهارة تذكرنا بأن الأدب الحقيقي لا يحتاج إلى ألف صفحة ليهز أعماق القارئ. كما أن حجمها المفرط لا يثقل على القارئ. شخصيات العمل قليلة العدد، مما يمنع أي تشتيت أو التباس، خاصةً أنها تخلو حتى من الأسماء، فتبدو كأشباح تتحرك في فضاء السرد بلا هوية محددة. الشخصيات كرموز وجودية ليس من واجب القارئ أو الناقد كشف “أسرار” النص الأدبي - لذا من الأفضل أن يحتفظ القارئ والناقد بتفسيره للرواية لنفسه وأصدقائه المقربين دون أن يعلنه كحقيقة مطلقة. مع ذلك، بما أن هذه الرواية لا تزعجك بالتفكير لأن الكاتب جلس يفكر طويلاً وقدم لك خلاصة أفكاره العميقة، يمكن استثنائياً تحليل أسباب بعض أحداث الرواية أو طرح تفسيرات لها.(1) الشخصيات هنا -بلا أسماء - ترفض أن تكون ألغازاً تحتاج لحل. إنها كيانات مفتوحة، أشبه بمرايا تعكس كل من يمر أمامها. غياب الأسماء والأمكنة والأزمنة المحددة ليس نقصاً، بل هو جوهر الرؤية الفنية للرواية. لا تقدم الرواية “شخصيات” بالمعنى التقليدي، بل تقدم حالات إنسانية مجردة، كأنها رسومات على جدارية وجودية كبيرة. القارئ هنا ليس مطالباً بفك شفراتها، بل بالتعرف على ذاته في شظاياها. لماذا تخلو الشخصيات من الأسماء؟ الاسم هو أول علامات الهوية، لكن الرواية ترفض منح شخصياتها هذه الهدية. كأن الكاتب يقول: “ما الفائدة من اسم في عالم لم يعد يرى فيك إلا رقماً؟”. الشخصيات هنا أشبه بأشباح تائهة في مدينة مزدحمة. هذا التجريد يدفع القارئ ليرى نفسه في كل شخصية، أو ليرى في كل شخصية شظية من ذاته المحطمة. شخصيات الرواية بلا أسماء، لكنها ليست غريبة عنا. هي مرآة لنا، أو ربما نحن ذواتنا في لحظات هشاشتنا. هذه الشخصيات المجردة من الهوية ليست ضعفاً في السرد، بل هي استعارة خفية لما آل إليه الإنسان الحديث: كائناً مختزلاً إلى ظل بلا ملامح، رقماً في نظام لا يعترف إلا بالضجيج. أتعرفهم؟ إنهم أنت! الشخصيات ليست مجهولة لأنها ضعيفة التكوين، بل لأنها متعمدة الضبابية. في عالم هذه الرواية، تصبح العزلة هوية بديلة عن الأسماء. الشخصيات لا تحتاج لأسماء لأنها تختبئ خلف أوصافها: “الرجل الذي يعيش وحيداً”، “المرأة التي تبكي ليلاً”، “الرجل البدين صاحب المبنى”. هذه الأوصاف ليست سوى أقنعة لما لا نجرؤ على تسميته: خوفنا من أن نختزل إلى مجرد أسماء بلا مضمون. هم استعارة لجيل فقد القدرة على تعريف نفسه خارج إطار “اللا انتماء”. البطل الذي يفقد حنان أمه فجأة، الرجل العجوز الذي يثير تعاطف القارئ لأنه فيه أباً أو جداً أو عماً أو جاراً مسناً لكننا لا نعرف شيئاً عن حياته... لا نرى فيه سوى نظرة أمل خائبة واستسلام. زوجة الرجل العجوز.. الطبيبة.. المالك السمين.. الزميل غير اللطيف.. هكذا هم. بلا أسماء ولا هوية. يعيشون فيك، أو تعيش فيهم؟ تلمس الرواية بفظاظة واقعية: نعرفهم جيداً لأنهم جزء منا. من الشخصية إلى الرمز: حين يصبح الفرد قضية جماعية كما ذكرت سابقاً، جميل في هذه الرواية أنها تمنحك جرأة الرمزية، وما أروع ذلك للقارئ الذي يعيد القراءة مرات! تتحول الشخصيات المجهولة إلى رموز لأمراض العصر: - البطل الذي يفقد أمه: رمز لجيل مقطوع الجذور يعيش في فراغ عاطفي. غضب، عزلة، حزن وعدم انتماء. عذاب الضمير لعدم الشعور بالذنب والهروب من كل شيء إلى حيث لا مفر. - الشاب المنكفئ على ذاته: يعكس أزمة التواصل في عصر الشبكات الاجتماعية. - الرجل العجوز: شاهد على صراع الأجيال بين تراث ينهار ومستقبل لا يرحم. لماذا نشعر أننا نعرفهم؟ لأن الرواية لا تصنع شخصيات، بل تستعير وجوهاً من واقعنا. عندما تقرأ عن “الذي يختبئ في غرفته”، لا يمكنك إلا أن تتذكر صديقك، ابنك، أو حتى نفسك. يلعب الكاتب لعبة ذكية: يجرد الشخصيات من تفاصيلها لتصبح أرشيفاً مفتوحاً نملؤه بأوجاعنا نحن. في هذا المنعطف الوجودي، ينكمش الإنسان على ذاته كحلزون، عاجزاً عن العودة إلى حِمى الأحشاء الأمومية التي لم تعد مأوى له، وعاجزاً عن امتلاك النضج الكافي لمواجهة العالم الذي ينهش أحلامه. يصبح الانكفاء “مهارة” للبقاء، لكنها مهارة مسمومة: فالعزلة التي تبدو “نعمة” مؤقتة للهروب من ضجيج الواقع، تتحول تدريجياً إلى نقمة تخنقه باسم الحماية. تشير الرواية إلى مفارقة مأساوية: كلما ازداد التمتع بهذه “النعمة الوهمية”، اشتدت الحاجة إلى الحميمية الإنسانية التي لا تعوض. هذا التحول من “الكائن الاجتماعي” إلى “الكائن الحلزوني” ليس سقوطاً أخلاقياً، بل نتيجة حتمية لنظام عالمي ينتج العزلة كسلعة استهلاكية. الرواية لا تنتقد الفرد، بل تكشف عن آلية خفية تدفعه لتبني العزلة كخيار وحيد، ثم تعاقبه على هذا الاختيار. العزلة التي تروج كـ”ملاذ آمن” في زمن الضوضاء الافتراضية، تتحول في النهاية إلى سجن ذاتي تزين جدرانه أوهام الحرية. العزلة كمرآة لهشاشة الإنسان الحديث العزلة التي تروج كـ”ملاذ آمن” في زمن الضوضاء الافتراضية، تتحول في النهاية إلى سجن ذاتي تزين جدرانه أوهام الحرية. الرواية ليست مجرد سرد للأحداث، بل هي مرثية وجودية تتجسد فيها مرارة الوحدة بكل أبعادها. هذه الرواية هي رواية ذلك الألم المطلق، الضائع في صحراء مشاعره، الذي لا يملك سوى نفسه وقرائه، قراء يرافقونه في رحلته المظلمة نحو العزلة. تتجنب الرواية عمداً الزخارف النمطية لروايات الشرق الأوسط التي تركز على الإثارة الجنسية، أو العلاقات العاطفية المحرمة أو غير المحرمة، أو الخطاب السياسي المباشر. حتى عندما تتحدث عن السياسة، لا تتناولها من منظور عام، بل تتحدث عن سياسة الجسد المنهك، سياسة الهوية التي تختبئ في زوايا الغرف المظلمة هرباً من عنف العالم. العلاقات الإنسانية تتحول إلى أشلاء ممزقة الحب – الذي يكاد يكون غائباً أصلاً في الرواية – يشبه طقساً فاشلاً للخلاص، والإشارة إلى الجنس ليست بدافع الفضول أو الشهوة أو كسر المحظورات والعادات. ليست مجرد محاولة خشنة لكسر جدار الوحدة. حتى السياسة تختزل إلى مجرد صراع فردي ضد أنظمة التحكم الخفية. بل تتسلل حتى إلى أحلامه. الرواية لا تقدم حلاً، بل تكشف عن جرح نازف في جسد إنسان هذا العصر: كائن يولد من رحم الوحدة، يعيش في متاهاتها، ويموت دون أن يسمع أحد صرخته... هذه الرواية ليست رواية للإجابة، بل لتطرح أسئلة وجودية على جروح عصرنا: هل الوحدة اختيار أم قدر؟ هل نفتخر بها أم نخجل منها؟ هل أن يفخر الإنسان بعزلته ويرى نفسه أفضل من الآخرين أمر يستحق الإعجاب؟ أم أن الاندماج في المجتمعات السطحية هو الحل اليوم؟ أم لا هذا ولا ذاك؟ لا الاختباء ولا الظهور المفرط والدائم. هل يمكن أن تكون العزلة شكلاً من أشكال المقاومة؟ تجيب الرواية بسؤال مرير: ماذا لو كانت الوحدة هي اللغة الوحيدة التي يفهمها الإنسان في عالم أشبه بغرفة مقفلة؟ عالم يُتحكم به من الخارج، بينما نحن نحمل المفتاح الوهمي له. برواية مكثفة خالية من الحشو، تصور الرواية مفارقة عصرنا: كلما ازداد العالم اتصالاً، تقلصت مساحتنا الداخلية حتى صرنا نعيش في جزر معزولة، نحدق ببعضنا من خلف شاشات حوّلت الصداقة إلى مشهد عابر. هذا العالم يبيعك العزلة، يمجدها، يمنحك شعوراً بالتميز والاختلاف، ثم حين تقع فيها، يشخصك علم النفس التسويقي على أنك معيب ويبيعك منتجاته. ترفض الرواية الثنائية التقليدية (عالم الداخل/عالم الخارج) وتكشف كيف تعددت طبقات الوحدة في عصر الشبكات الاجتماعية: “الخارج” يتسلل إلى أعماق “الداخل” عبر شاشات تحمل رعب العالم، و”الداخل” ينفجر في الفضاء الرقمي كصرخة بلا رد. الوحدة هنا ليست انفصالاً، بل وعي مرير بتشابك واقعين: واقع ملموس يخنقك، وواقع افتراضي يزيف التحرر. لا تدين الرواية الوحدة، بل تغوص في تناقضاتها. تتحول الشخصية الرئيسية (التي تفقد فجأة حنان الأمومة والأبوة والأخوة) إلى كائن هش، كالدخان الذي يتلاشى بلا أثر. هذا التحول ليس مجرد تطور درامي، بل استعارة لجيل يعيش في فراغ بين ماضٍ منفصل وحاضر لا يُحتمل. الوحدة هنا ليست اختياراً، بل نتيجة حتمية لعالم يدفعك إلى العزلة كي تهرب من ضجيجه، ثم يعاقبك عليها! العالم الخارجي” (الشبكات الاجتماعية، الأنظمة الاقتصادية) لم يعد فضاء منفصلاً، بل اخترق خصوصية الوحدة وأصبح جزءاً من كياننا الداخلي. حتى السياسة لم تعد خطاباً عاماً، بل صراعاً داخلياً مع آليات التحكم الخفية. تذكرنا الكاتبة أن السلطة اليوم ليست فقط في يد الحكومات، بل في يد كل من يمسك شاشة صغيرة يدير من خلالها عالمك. مفارقة التحرر: هل الوحدة مقاومة أم استسلام؟ تطرح الرواية سؤالاً محورياً: هل يمكن أن تكون الوحدة شكلاً من أشكال التمرد؟ الجواب المرير هو: في عالم يُتحكم بكل شيء، حتى بأحلامنا، ربما تكون الوحدة آخر أسلحة الضعفاء. لكنه سلاح ذو حدين: قد يحررك للحظة، ثم يقتلك ببطء. لماذا نقرأ هذه الرواية؟ “ترف الإنكفاء” ليست رواية عادية، بل جرح مؤلم لا يراه الجميع. هذه الرواية مرآة للقارئ يرى فيها انعكاس خيباته، وحيرة جيل يبحث عن المعنى في عالم وهمي. الكتابة لا تقدم وعوداً ولا تمهد طرقاً، بل تفتح نافذة على غرفة مظلمة نعيش فيها جميعاً... ربما لا نجد فيها نوراً، لكننا على الأقل ندرك أننا لسنا وحدنا. رواية “ترف الإنكفاء” لوائل الحفظي رحلة عميقة إلى أعماق النفس البشرية في العصر الحديث، حيث تتحول الوحدة إلى مرآة تعكس كل تناقضاتنا وآلامنا. هذا الكتاب ليس مجرد قصة عن المنعزلين، بل تشريح دقيق لذلك الشعور الغريب الذي يحيط بنا جميعاً رغم حصار العالم لنا. العجوز في الرواية ليس العجوز في الرواية مجرد شخصية مسنة، بل رمز لكل الحكمة المنسية في زمننا السريع. هو ككتاب قيم مختبئ تحت الغبار في مكتبة لا يزورها أحد. حكمته لم تعد ذات قيمة في عالم يقدس السرعة والبساطة. وفي هذا الصراع بين الأجيال، نرى أن الشباب لم يعودوا قادرين على التعلم من خبرات الكبار، والكبار فقدوا القدرة على فهم لغة الجيل الجديد. الأكثر إثارة للقلق هو كيف تحولت الوحدة نفسها في عالمنا الحديث إلى سلعة. نشتري أجهزة تزيد عزلتنا، ثم نشتري تطبيقات تعدنا بالتواصل! ندفع المال لنعزل أنفسنا، ثم ندفع المال لنشعر بوحدة أقل. إنها حلقة مفرغة يجسدها الكاتب بمهارة من خلال حياة شخصياته. في النهاية، “ترف الإنكفاء” ليست مجرد رواية عن الوحدة، بل مرآة تعكس شرخاً عميقاً في روح عصرنا. تظهر الرواية كيف أن التقدم التكنولوجي الهائل لم يقابله تقدم مماثل في علاقاتنا الإنسانية. الكاتب لا يقدم حلولاً جاهزة، لكنه يفتح أعيننا على جرح نازف في جسد الإنسانية – جرح اسمه الوحدة الحديثة. هذه الرواية صرخة في عالم فقد القدرة على السمع، محاولة لقول ما لا يُقال في زمن الكلام الفارغ. تذكرنا الرواية أن الإنسان، رغم كل التقدم، ما زال كائناً يحتاج إلى الحب والفهم والانتماء. ولا تقدم تكنولوجي سيحل أبداً مكان دفء العلاقات الإنسانية الحقيقية. (1) “نظرية “موت المؤلف” (رولان بارت) تقول إن معنى النص لا يحدده الكاتب الأصلي، بل يخلقه القارئ من خلال تفاعله مع النص. وبالتالي، فإن أي تفسير للنص ليس سوى قراءة من بين قراءات محتملة، وليس حقيقة مطلقة.عبارة “الرواية لا تعطيك جهد التفكير” تشير إلى أن الكاتب قد قدم أفكاره بشكل مركز ومكثف، مما يقلل الحاجة إلى التخمين أو البحث عن معان خفية.”الاستثناء” هنا يعني أنه رغم استقلالية النص الأدبي (حسب نظرية بارت)، يمكن مناقشة أسباب الأحداث لأن الكاتب نفسه قد قدم إجابات جاهزة تقريباً. *كاتبة ومترجمة إيرانية.