
في المشهد الثقافي السعودي، يلعب النقد دورًا محوريًا في تشكيل الوعي الجمالي، ورصد تحولات الخطاب الإبداعي، غير أنه ظل لسنوات عديدة حبيس إشكاليات منهجية أعاقت تطوره، وجعلته عاجزًا عن مواكبة الطفرة الإبداعية التي شهدتها الأجيال الأدبية الجديدة، خاصة جيل التسعينيات، ومطلع الألفية الثالثة. فبينما انفتح المبدعون على آفاق عالمية، وتفاعلوا مع فنون متنوعة كالسينما والمسرح، وابتكروا لغة شعرية وسردية طازجة، بقي النقد يراوح مكانه، متكئًا على نظريات بالية، ومتوارياً خلف سديم المصطلحات الأجنبية التي حوّلته إلى خطاب نخبوي مغلق، بدلًا من أن يكون جسرًا للحوار بين المبدع والمتلقي. لم يكن انفصال النقد عن النصوص الإبداعية وليد الصدفة، بل هو نتاج ثقافة نقدية ظلت مأسورة بقدسية “النظرية”، فتحولت من أداة تحليل إلى غاية نهائية. فكثير من النقاد توقفوا عند حدود التنظير، وارتهنوا لمصطلحات معقدة مستوردة من سياقات ثقافية مختلفة، دون أن يبذلوا جهدًا في تفكيكها، أو توطينها في التربة المحلية. وهكذا تحول النقد إلى خطاب طقوسي، يكرر نفسه بمنطق آلي، ويُخفي عجزه عن الاشتباك مع النص تحت وابل من المصطلحات البرَّاقة التي تزيد النص غموضًا بدلًا من كشف طبقاته. لم يعد السؤال: كيف نقرأ النص؟ بل أصبح: كيف نطبق النظرية؟ وكأن النص مجرد ذريعة لاستعراض المصطلحات، لا مادة حية تستدعي التأويل. هذا الانزياح عن جوهر النقد – الذي يفترض فيه أن يكون حوارًا مع النص – ترك إبداعات الجيل الجديد في عزلة، فجيل التسعينيات وما تلاه، كتب بلغة مختلفة، مستلهمًا تنوعًا ثقافيًا غير مسبوق، ومتحديًا التابوهات الفنية، بيد أن النقد ظل مكتفيًا بإعادة إنتاج مقولات جاهزة عن أجيال سابقة، أو منشغلًا بتصنيف النصوص في مدارس نظرية جامدة، وبات يدور في فلك أسماء بعينها، متجاهلًا أصواتًا جديدة حاولت كسر القوالب النمطية. وهذا التجاهل لم يكن إهمالًا عابرًا، بل كان تعبيرًا عن أزمة منهجية في الرؤية النقدية ذاتها، التي افتقرت إلى المرونة اللازمة لاستيعاب التحولات الجذرية في اللغة والأسلوب والرؤية. في المقابل، قدم الجيل الجديد من المبدعين نماذج إبداعية لها فرادتها، تواءم الشعر بالسرد، والواقعي بالخيالي، وتستفيد من التشكيل البصري وتقنيات السينما، ما يستدعى نقدًا من نوع جديد، قادرًا على تفكيك هذه النصوص بمنهجيات تتجاوز الخطاب التقليدي. لكن النقد المُعلَّب، الذي يعتمد على وصفات جاهزة من، “التفكيكية” و”الألسنية”، و “البنيوية” و “النسق” و “جماليات التلقي” مع تكرار اسماء بعينها، كجاك دريدا، ورولان بارت، وباختين، فشل في تقديم قراءة متعمقة، واكتفى بإلصاق التصنيفات بالنصوص دون الغوص في أسئلتها الجوهرية. وهنا بالذات يظهر التناقض الأكبر: ففي الوقت الذي يسعى الإبداع إلى كسر الحواجز بين الفنون، ويعبر عن هوية منفتحة، يصر النقد على التمسك بحدود مغلقة، ويختزل النص في إطار مصطلحاتي ضيق. لا يعني هذا أن المشهد النقدي السعودي خالٍ من المحاولات الجادة، فثمة استثناءات حاولت الخروج من دائرة التنظير المجرد إلى فضاء النص الحي، غير أنها تظل جهودًا فردية. إن خلاص النقد من أزمته يفترض جرأة في مراجعة الذات، والاعتراف بأن النظرية ليست غاية، بل وسيلة. كما يتطلب الانخراط في أسئلة الواقع، وفهم التحولات الاجتماعية التي تصنع وعي المبدع الجديد. آن الأوان لكي ينزل الناقد من برجه العاجي، ويخوض في تفاصيل النص، ليسائل لغته، ويكشف مفارقاته، وينصت لصوته المختلف. آن الأوان لنقدٍ يكتب بلغة واضحة، لغة، لا تُخفي غموضها خلف مصطلحات مستعارة، نقدٍ يشتبك مع الإبداع لا مع النظرية، مع النص، لا مع المصطلح، ويكون شاهدًا على حراك ثقافي لا يتوقف عن التجدد.