الشعر من لغةٍ إلى أخرى:

خضرةٌ وارفةٌ تلمعُ في الزمن

1 من الكتب الجميلة التي قرأتُها، ديوانٌ بعنوان “ مدن الآخرين “، يضمُّ عددًا من القصائد المنتخبة لسبعة عشر شاعرًا من شعراء العالم.. قام بانتقائها وترجمتها الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي، وصدر الديوان عن “ منشورات الخازندار “ بجدة.. هذه القصائد لا يجمع بينها سوى الموضوع الذي تناولته وهو: المدينة. والمدينة كما يرى حجازي في مقدمته للديوان: “ ليست مجرد موضوع، إنها عالم، أو هي العالم؛ لأنها العصر، عرفنا فيه السعادة أم عرفنا الشقاء “، ويرى حجازي أيضًا أن “ الإنسان المعاصر نباتٌ أطلعته المدينة “، ويضيف: “ المدينة هي اللذائذ المرعبة والجحيم عند بودلير ، وهي الأرض اليباب عند إليوت.. وفي سلطة المال التي تسحق بساطةَ الإنسان ونبله وجماله في أفلام شارلي شابلن “”، ويقول حجازي: “ من هنا تتحول المدينة في الآداب والفنون المعاصرة من مجرد موضوع مشترك إلى عالم مشترك “. الشعراء الذين ترجم لهم حجازي وانتقى قصائدهم التي احتواها هذا الديوان الجميل الأنيق هم : بودلير ، وأبولينير ، وأراجون ، وسان جون بيرس ، وجمال الدين بن الشيخ ، وجان كلارانس لامبير ، وكفافيس ، وأونغاريتي ، ولوركا، وباوند ، وإيليوت ، وماياكوفسكي ، ومندستام ، وجويل دي روزييه ، وأوكتافيو باز ، وجورج تراكل ..قصائد هذا الديوان جميلة وعميقة، أضْفَتْ عليها ترجمةُ حجازي - بوصفه شاعرًا - جمالًا أخاذًا..  2 كلما عدتُ إلى ديوان “ منارات “ للشاعر الفرنسي سان جون بيرس - هذا الذي ترجمه الشاعر أدونيس وصدر عن دار “ المدى “ بدمشق - أسرتني عذوبته.. كما أسرني الحديث عن البحر والأشرعة والسفن والكتابة والمرأة والعشق..” البحر الذي يحفر فينا مهاويه الرملية ، ويحدثنا عن رمالٍ أخرى “ / “ البحر المتعدد والنقيض، العنف والوداعة / البحر الذي يستحق أن نحييه تحيةً يبقى ذكرها طويلًا كذكرى قلبٍ يستريح “ / .. هنا الحديث عن السفن يأسر الروح حيث “ المجد في الأشرعة “ ، إذ “ ليس هناك طمأنينةٌ أكبر مما هي في سفينةِ الحب “ ، وحيث “ السفينة التي تحمل امرأةً ، ليست أبدًا سفينةً يهجرها رجل “ ، هنا أيضًا سان جون بيرس “ الحامل عبء الكتابة “ يمجّدُ الكتابة ، بيد أنه لا يكفُّ عن القول : “ تهددني القصيدةُ الكبيرةُ “ ، ممتدحًا امرأةً يضيؤها عطرُها هكذا : “ يا امرأةً ، يا حُمّى صِيغَتْ امرأةً “، فيما لا ينسى مشهدَ العشقِ الذي لا يترمَّدُ ، حيث في اللحظةِ الدافئةِ “ يبدو العاشقُ والعاشقةُ كحشدٍ من القساةِ أو كحشدٍ من الكواكب”.   3 في مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر عثرتُ على كتابٍ شعريٍّ ضخمٍ [465 صفحة ] ، الكتابُ بعنوان “ هكذا هي الوردة “، وهو حقًّا بديعٌ، يحتفي بنصوصٍ مختارةٍ بعنايةٍ تغطّي “ قرنًا من الشعر الإسباني الحديث “ ، ترجمها عن الإسبانية وقدَّمَ لها الدكتور عبدالهادي سعدون الذي سبق أن أصدر عن دار “ أزمنة “ في عَمَّان مختاراتٍ فاتنةً تضمُّ مئةَ نَصٍّ من “ الشعر الإسباني الجديد “.. كتبتُ عنها بحبر القلبِ إضاءةً وارفةً قبل ثلاث سنوات، وظهرتْ للنور في كتابي “ حدائق الآخرين “.. هنا في هذا الكتاب الضخم منحني الرائع عبدالهادي سعدون أجنحةً كثيرةً؛ كي أحلّقَ عاليًا.. هنا حيثُ يمتدُّ هذا الأفقُ الشاسعُ من القصائد أجدُني مبللًا بالشعرِ والعشقِ والحدائق. هنا حقًّا يتألقُ جمالٌ فارهٌ، كُلّما لمستُهُ يضوعُ العبقُ بين أصابعي، وكلما قرأتُهُ يفوحُ العطرُ في ثيابي. 4 الشاعرة البريطانية سارة ماغواير “ ليستْ شاعرةَ لغةٍ “ ، وإنما هي “ شاعرةُ حياةٍ مكشوفة “ تتجلى بها “ علاقةُ الشعر الأولى بالحياة وشؤونها “ - كما قال سعدي يوسف الذي ترجم لها مختاراتٍ فاتنةً بعنوان “ حليبٌ مُراق “ ..ترجمة سعدي هذه تأتي كما قال “ بسبب القيمة الحقيقية لشعرها “ ..سارة هي أولُ كاتبة يرسلها المجلس الثقافي البريطاني إلى فلسطين واليمن ،  ولقد كتبَتْ عن البلدين نصوصًا جميلةً فاحَ منها فلُّ اليمن وياسمينُ فلسطين..وهي أيضًا عملتْ بدأبٍ على تقديم الشعراء العرب إلى الجمهور البريطاني ، وأذكر في هذا السياق ترجمتها لقصائد الصديق الشاعر غسان زقطان وقصائد الشاعر الكبير محمود درويش.  5 “ خطوات ، ظلال ، أيام ، وحدود “ عنوان مختارات فاتنة للشاعر الألماني ميشائيل كروغر “ صدرت عن “ المدى “ بدمشق ، ترجمها بلغة جميلة نجم والي ، وراجعها فؤاد رفقة الذي سبق أن ترجم نصوصًا رائعة للشاعر الألماني الكبير هولدرلن ..كروغر سبق له أن زار اليمن ، وله صداقات عربية جيدة ، ومن أهم أصدقائه مترجم المختارات نجم والي والشاعر فؤاد رفقة الذي راجع المختارات ورحل قبل أن تصدر في كتاب .. في المقدمة التي كتبها الشاعر كروغر نفسه أعربَ عن سعادته بهذا الإنجاز الرائع قائلًا : “ إنه لشرفٌ كبيرٌ لي أن تُقرأ قصائدي الآن بالعربية ، اللغة الأكثر قدمًا من الألمانية والتي حافظَتْ على قدرها العتيق رغم التحديث “.  6 أنفقتُ ليلةً كاملةً في ظلال الشعر ..قرأت ديوان “ قصائد مختارة “  للشاعر الروسي يوسف برودسكي ـ الحاصل على جائزة نوبل في الأدب العام 1987 - راقت لي كثيرًا تلك القصائد المختارة التي اصطفاها وترجمها عن الروسية المبدع  برهان شاوي ، وراجعها الشاعر الكبير سعدي يوسف ..لقد راقت لي مرثيته الكبرى عن الشاعر الإنجليزي الغنائي “ جون دون “ الذي حين رقد “ من حوله رقدت الأشياءُ كلها “ ، لقد “ رقد السباتُ “ نفسه ، و “ الجيادُ رقدتْ ، إنها تعدو في النوم “ ، إنه جون دون الذي يقيم “ مأتمًا في أعالي السماء “ ، إنه الشاعر الذي خلق بإبداعه “ أفكارًا ومشاعرَ ثقيلةً مثل قيد “ ..كما راق لي حديثه عن الحب : “ الحب الجسدي مثل واجب المغنية / بينما الحب الروحي هو وليمةُ الكاهن “ ..وفي نص رائع بعنوان “ أفعال “ طربت لهذا المقطع الفاتن : “ كل صباح تذهب الأفعال إلى العمل / تقوم بمزج الملاط ونقل الحجارة / لكنها عند بناء المدينة لا تبني مدينةً / وإنما تقوم بنصبِ تمثال ٍ لوحشتها “ ..ولقد طربتُ أكثر حين قرأتُ له هذه الومضة الشعرية الرائعة “ نحن نحيا مدفونين في أجسادنا “ .. في نهاية الديوان أدهشني حديث برودسكي عن الشاعرة الكبيرة آنا أخماتوفا أجراه الصحفي والمؤرخ الموسيقي فلكوف ، يقول فيه “ نبرةٌ واحدةٌ من صوت أخماتوفا تهزك من الأعماق ، التفاتةٌ واحدةٌ من رأسها كافيةٌ لتجعلك ثملًا “ ...المختارات صادرة  عن دار المدى بدمشق ..  7 كلما عطشتُ للشعر الصافي أرِدُ هذا النبعَ: “ مختارات  لرفائيل ألبيرتي “..أكسرُ حِدَّةَ العطش ، وأشعرُ بعدها أن في فمي ربيعًا يتبرّج ، وأن خضرةً وارفةً تتسكَّعُ في القلب. رفائيل - كما وصفه بابلو نيرودا - “ كائنٌ ناجٍ من الموت ، أُعِدَّتْ له ألفُ ميتةٍ لقتلِ الشعرِ فيه ، لكنَّ الشعرَ لم يَمُتْ ، فللشعرِ أرواحُ القطّةِ السبع “ ، ويضيف : “ الشعر يخرج من كل تلك الحوادث بوجهٍ نظيفٍ وابتسامةٍ من أرز وقلبٍ مجبولٍ من نارِ الأعنابِ وهديرِ الموج “..إن لشعر البيرتي كما لوردة حمراء متفتحة في الشتاء بمعجزة ، وإن أغاني إسبانيا الأساسية تنصهرُ في كأسه ، لقد ابتدعَ الأغاني التي نَمَتْ لها أجنحة ، فراحت تحلق فوق كل أرض ، الشعر من غير هذه المزية يرنُّ ولكنه لا يغني ، وألبيرتي غنّى دائمًا.  8 في ديوان  “ الصوت والحجر “ للشاعر الفرنسي إيف بونفوا ، ( اختار النصوص وترجمها الشاعر التونسي محمد بن صالح ـ صاحب ديوان “ أنتِ كالزهرةِ لا تبصرين “ ) تحضرُ الطبيعةُ بكامل زينتها ، تحضرُ الذاكرةُ بكامل تجلياتها ، الحدائقُ والنساء ، المدن والأقمار ، النوافذ و المطر ، الضحك والدموع ، انطفاءات الموت وإشراقة الحياة ، الضوء الذي يسيلُ والظلال التي تتبرج ، إنها قصائد تقطرُ شعرًا رغم أنف المقولة التي ترى أن “ الترجمة خيانة “ ..الديوان جاء في 400 صفحة ، وهو صادر عن “ آفاق للنشر والتوزيع “ و “منشورات الجمل “.  9 في ليلةٍ هادئةٍ ، قضيتُ وقتًا ممتعًا في قراءة ديوان  “ الكرسي “ للشاعر الكردي الكبير شيركو بيكه س ، هذا الشاعر كما يصف نفسه “ عتيقٌ في المدينة ، مجنونٌ كالريح “ ، و” أحيانًا يستحيل شعرًا ثملًا في حانة “ ، في هذا الديوان يتحدث شيركو  عن “ كرسي حالمٍ مرتبك ، حزين آنَ يصفنُ ، وكأنه غيمةٌ صغيرةٌ معذبة “ ، عن ضبابٍ يدخن سيجارةً تلو أخرى ، عن امرأةٍ في نعومة الماء ، مستلهمًا حياة الناس عبر حكاية شعرية ترسم وجوهًا لحياة مفعمة بالحب والجمال والعذاب .. الديوان نص طويل مفتوح ، قام بترجمته عن الكردية سامي داود ، وصدر عن “ المدى “ بدمشق ...   10 في العام 1991 ، قرأتُ ترجمةً جميلةً لقصائد مختارة من الشاعر المدهش قسطنطين كفافيس - اليوناني الذي عاش   في الإسكندرية ـ أنجزها نعيم عطية عن اليونانية مباشرةً وهذه مزيّةٌ كبيرة ..في أحد معارض الكتاب بالرياض عثرتُ على طبعةٍ ثانيةٍ لهذه المختارات التي ترجمها عطية صادرة عن “ المركز القومي للترجمة “. الجديد هنا هو إن هذه الطبعة الأنيقة تحتوي على نصوصٍ أخرى لم تكنْ موجودةً في الطبعة الأولى، كما تحتوي على رسوم -” بورتريهات “- للشاعر بريشة عدد من الفنانين التشكيليين العالميين ، بالإضافة إلى دراسة طويلة عميقة عن كفافيس وقصائده وحياته. بقي أن أقول إن الشاعر الكبير سعدي يوسف ترجم مختاراتٍ مدهشةً لكفافيس ، كما ترجم الشاعر الكبير صلاح عبدالصبور مختاراتٍ أخرى له ، وقام  الصديق الراحل رفعت سلام بترجمة الأعمال الشعرية الكاملة ، كذلك ترجم الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي عددًا من قصائد كفافي أذكر منها جيدًا قصيدة “ المدينة “ التي وردت في كتابه الجميل “ مدن الآخرين “ ..لكنَّ جميع هذه الترجمات لم تكن عن اليونانية مباشرةً كما فعل عطية ، وإنما عن لغةٍ ثانيةٍ وسيطة. أخيرًا أشير إلى أن عددًا من قصائد “ شاعر الإسكندرية “ تألقتْ ، وعاشَتْ عميقًا في الزمن ، بوصفِها “ علاماتٍ “ بارزةً في سياقِ الشعرِ العالمي وفي فضاءِ الإبداعِ الذي كُتِبَ له الخلود ، إذْ ظلَّتْ تعبقُ في الأفق كأجملِ عطر ، وظلّتْ تتجدّدُ مع كلِّ قراءةٍ لها كما لو أنها تنتمي إلى سلالةِ الأنهار ، مثل : “ في انتظار البرابرة “ ، “ إيثاكا “ ، “ المدينة “ ...الخ.  11 نهضَتْ السيدة العراقية الرائعة وصال العلاق بترجمة “ مختارات شعرية “ للشاعر الأمريكي الأسود أي .أثيلبرت ميلر ، ولقد آثرَتْ أن يكون عنوان الديوان هكذا : “ في الليل ، كلنا شعراء سود “ ، وهو نص قصير مدهش لهذا الشاعر المبدع ..قراءة هذا الديوان الجميل تشبه نزهةً باذخةً في حديقة ٍ فارهة ...ومنذ الإهداء المقتضب الذي كتبه ميلر إلى المترجمة “ وصال “ نعثر على ماسة الجمال مشعةً خصوصًا في مقولته التي أدارت رأسي : “ الحبُّ لا يضيعُ أبدًا عند ترجمته “ .. إنك وأنت تقرأ هذه القصائد المختارة بعناية يُخَيَّلُ إليك أنّ القصيدةَ “ امرأةٌ تتمشَّى ملتفةً بغموضها الخاص “ ، كما أنك ترى على بياض الورق تلك “ الأصابع “ التي كتبتْ هذه النصوص وقد “ سالَ منها الدمع “ ، وتبصرُ كذلك الحُبَّ ناصعًا “ يتأرجحُ كالأشجار “ ، وتحسُّ إذّاك بأنّ في قلبكَ تتوهجُ شمسٌ عالية ..كما تطاردك صورة الثلج الشاسع ، صورةُ ذلك “ البياض الذي لا آخر له ، كرسائل ملقاةٍ دونما أغلفة “ ...لتجد نفسك في ختام هذه النزهة الفارهة متلبسًا بسؤالٍ تقتطفه من فم الشاعر كما لو أنك بادرتَ بقطف وردة ، هكذا : “ لماذا يلتبسُ عليَّ الأمرُ فأخلطُ بين وحشةِ المنديل المُلقى على المائدة وقلبي ؟ “ أخيرًا ، هذه المختارات العذبة صادرة عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث ( كلمة ) ...  12 إنها شاعرةٌ فاتنة ، عاشت قصة حبٍّ مشتعلة مع زوجها ، هذا الحب أذكى فيها جمرة الشعر الذي يأسر القلب ، كما أذكى رحيلُهُ الجحيمَ في أعماقها ، إنها التشيلية غابرييلا ميسترال التي كتبَتْ شعرًا بسيطًا بيد أنه كان حارقًا وعميقًا في آن ..الأمر الذي جعلها تحصد جائزة نوبل في العام 1945 ..الشاعر العراقي الكبير حسب الشيخ جعفر ترجم لها مختارات فاتنة صدرت في كتاب عن دار المدى بدمشق ، هذه الشاعرة مفتونة بالطبيعة : النخل والبحر والريح والغصون ، أليست هي التي قالت إن “ النخيل ينحني فوق رأسيَ كالأمهات “ ، ألم تقل إن “ النساء يهدهدن البحر ليلاً وكأنه طفلٌ قرب موقد “ ،ألم تقلْ : “ أنا أعبقُ برائحةِ الأرضِ والحدائق “ ..هذه المفتونة بحبيبها/ زوجها الذي اختطفه الموتُ منها باكرًا ، قالت له ذات بهجة ٍ : “ حين ترنو إليَّ أغدو جميلة “، وهي التي قالت عنه : “ مضى في الطريقِ متغنًّيًا ، آخذًا عينيَّ معه “ ، وهي التي خاطبته قائلة ً : “ لا تحجبْ وجهكَ عنّي ، لا تحرمني نعمةَ الضوء “ ، وهي التي ترى أن “ الكراهية لحظةٌ ، وأبديٌّ هو الحب “ ، وهي التي تشدو بعذوبة ٍ هكذا : “ فادحٌ هو الظمأ ، وثقيلٌ هو الصعود “ ...هذه المرأة الشاعرة يسكن قلبها الأنين ، والحزن ، والفقد ، والذكريات ، والألم ، لهذا كله باتت تغني هكذا : “ قلبي العاشق يخفق كرايةٍ في الريح ، لا جراح في جسدي ، غير أنّ وجهي كان يتغطى بالدموع “ ، وتصف نفسها قائلة ً: “ أنا أشبه بالنافورة المهملة ، ميتة تسمع خريرها القديم “ .. ولأنها تلامسه فلا تلمس شيئًا تفصح إذ تبوح : “ لا دفء في كلمات البشر “ ، وتدندن في حزن ٍ طاغ ٍ : “ أحرقتِ القصائدُ شفتيَّ ، غير أني لا أملك أن أقولها “ ...وتطلق عبارتها التي دفعتني للبكاء : “ أخشى أن أتذكر أنني ما زلتُ حية “ ..وتتساءل حزينةً : “ أنجاةٌ تنتظرني ؟ أم هلاكٌ حقود ؟ “ ..وتتمنى أن تكون نهايتها هكذا : “ أريدُ أن أمضي تاركةً أيَّ شيءٍ يغلقُ الأرضَ دوني “ ...أخيرًا أقول : ألم يمسسكم جمرُ شعرها الحميم ، الصادق ، الجميل كما مسني ؟  13 عشتُ وقتًا ممتعًا وأنا أقرأ كتاب “طردتُ اسمَكِ من بالي”للشاعر الغواتيمالي ، الهندي الأحمر ، أمبرتو أكابال ، هذه المختارات البسيطة العميقة القريبة من الروح ترجمها وقدم لها وليد السويركي ..أكابال الذي ينتمي إلى ثقافة “ الكيتشي مايا “ أدهشتني سيرته الذاتية الموجزة التي كتبها خصيصًا لهذه النسخة العربية ، فهذا الشاعر - الذي تأثر بحكاياتٍ كانت ترويها الأم في صغره كما تأثر بجده الذي علَّمَهُ لغة الطير والأساطير والموسيقى - عاش حطّابًا وعتّالًا وبائعَ علكة وسكاكر وعاملًا في مصنع  ، كما عاش حياةً مليئةً بالخوف بسبب الحرب الأهلية التي اجتاحت بلاده ، لهذا نجده يقول “ بِتُّ أخافُ ظلِّي “ ؛ ولهذا كان يشعرُ بأمانٍ أكبر حين يكون الجوُّ غائمًا  ، هذا المنتمي لثقافة الخوف يصفُ الخوفَ بأنه “ شيءٌ لا يُرى ولكنه يعيش معنا ، شيءٌ يقف له شعر الرأس وأنه لفرط طاقته يجعل قلوبنا ترتعد “ ، أمبرتو منذ طفولته الحافية البائسة كان شغوفًا بالقراءة ، وأول كتاب قرأه كتاب عن “ باخ “ سرقه من معلمه وهو صغير وقد عانى طويلًا في إخفائه خشية عقاب أبيه..أمبرتو أكابال يكتبُ شعرًا زاخرًا بحضور الطبيعة المدهش: الأشجار والعصافير والغيوم والشلالات والينابيع والريح والمطر والليل والظلال وغناء الغابات وشدو الطيور وبوح الأرض وأسرارها..قال “ أريد أن أكونَ بسيطًا كشجرة “ فكان له ما أراد ، إذ كتب نصوصًا خاليةً من التفلسف والغموض ، نصوصًا “ صافيةً مفتوحةَ العينين على جمال العالم “ - كما وصفها المترجم السويركي - لقد أسرني هذا الهندي الأحمر وهو يتحدث عن وداع الأم - التي تشبه أمي في وداعها - هكذا “ في كل مرة كنتُ أغادر ، كانت النظرة على وجه أمي ليلة الرحيل تبدو كصلاة “ ، أيضًا أسرني وهو يصف القراءة بأنها “ فعلُ خشوع “ ، أسرني وهو يصف نشيدًا ملونًا هكذا : “ تَهَبُ أوراقُ الأشجارِ الصوتَ لونًا / لذا نشيدُ العصافيرِ أخضر “ ، أسرني وهو يصف الظل بأنه “ ليلٌ صغيرٌ على قدمي شجرة “ ، وهو يصف “ الأوراق الميتة “ بأنها “ رسائلُ حُبٍّ تَوَّدُ الأشجارُ نسيانَها “ ، وهو يخاطبُ حبيبته قائلًا : “ اسمكِ كان ينتظرني في الركنِ / جالسًا على حجر “ ، وهو يعيدُ الأشياءَ إلى بكاراتها الأولى : “ في الكنائسِ / لا نسمعُ غيرَ صلاةِ الأشجار ، وقد صارتْ مقاعد “..جدير بالذكر إن أمبرتو أكابال أهدى هذه المختارات إلى “روح الراحل الكبير محمود درويش احتفاءً بسيطًا بذكرى شاعرٍ عرفتُ كيف أحبُّهُ دون أن ألتقيه “.  14 محمد الأرناؤوط فتح لنا نافذة كبيرة على الشعر المعاصر في “ كوسوفو “ .. هذه البقعة من الأرض التي حضرَتْ ذات مرحلة في قنوات الأخبار بوصفها اختزالاً لأنين الإنسان الملطخ بالحرب والدم  جعلها الأرناؤوط تحضر بكامل تجلياتها الجميلة عبر اللغة ، عبر تبرّج القصيدة التي تذكي جذوة الروح فينا ، وأمسك قلوبنا من أطرافها الباردة كي “ تتفرج “ على النور ، والربيع ، والحب ، والعصافير ، والغيوم ، والأجنحة في “ كوسوفو “ .. الأرناؤوط نهض بمهمة التعريف : هذا الشاعر بسيم بوكشي ، اصغوا إليه وهو يدلنا على بؤسنا الداخلي هكذا : “ لدى كلٍّ منّا تجاعيد في روحه “ ، فيما كان الشاعر محمد كرفيشي يغني : “ إذا سقطتُ أنا، وتابعتَ أنتَ سيري ، ففي الحياة ربيع “ فيما يواصل غناءه العذب ممتدحًا أيامه : “ أيامي عصافيرُ رحّالةٌ تسيرُ كالغيوم “ ، أما الشاعر رحمن ديداي فيرينا حقيقة الزمن هكذا : “ في بعض الأحيان يكونُ الزمنُ مجرد قميصٍ مهتريء “ ، وينصح الإنسانَ فينا قائلًا: “ قِسِ الزمنَ بالحبِّ فقط “ ، بيد أن الشاعر علي بودريميا يرى أن : “ كل ما هو جميلٌ عن الحبِّ لم يُذْكَرْ بعد “ ، لكن الشاعر موسى رمضاني يسمعنا نشيده الجميل الأنيق الذي يشبه همسةً ذات قيظ : “ الذكرى أمُّ الألم “ ، وفي جهةٍ ما من كوسوفو كان الشاعر عمر شكريلي يدندن : “ نحن نشبهُ الطيورَ ، وحتى موتنا له أجنحةُ الطيور / نحنُ نموتُ عدّةَ مراتٍ في عدّةِ أماكن ولكن ما زلنا أحياء “ ..المختارات صادرة عن دار “ أزمنة “ في “ عمّان “ ...   15 إنه ديوان ثمين حقًّا ، تلك كانت عبارتي التي أطلقتها ابتهاجًا ، حالما فرغت من قراءة “ شاعر في نيويورك “ للفاتن الكبير غارثيا لوركا ، هذا الشاعر المثقل بحضور ٍ طاغٍ لمفردة السماء التي كانت مبثوثةً في الكثير من نصوصه التي ترجمها ترجمةً آسرة حسين مجيد ، وصدرت عن دار أزمنة في عمّان ، إن حضور “ السماء “ ـ هنا في هذا الديوان ـ  له تجليات شتى ، إذ يصرخ الشاعر بحنجرةٍ كاملة واصفًا عثراته في الحياة هكذا : “ متعثرٌ بوجهي / مقتولٌ بالسماء “ ، كما لو كانت السماءُ تذكي له جمرة العذاب أو تحوك له المكيدة ، وعلى الرغم من أنه يقترح على هذه القبة العالية “ أن تهرب من صخب النوافذ “ ، نجده يبرر لها أن تبدو عارية ً طالما أنه “ لم يلتفت إليها أحد “  وطالما أنه “ لا أحد ينام في السماء “ ، ولكي يرى “ غياب كل الأشياء “ فما عليك إلا أن تمده “ بسماءٍ حزينة “..ليس هذا هو الهاجس الملح الوحيد الذي شدني إلى لوركا في ديوانه هذا ، فلقد شغلني كثيرًا شغفه الدؤوب بإعادة تفسير العالم ، فهو مثلاً يرى أن “ القمر جمجمة حصان “ ، وأن “ الهواء تفاحة مظلمة “ وأن “ الحياة ليست حلمًا “ وأن ما تراه جحيمًا ليس جحيمًا وإنما هو الشارع ، وأن “ العشاق “ غدًا يصبحون “ أحجارًا “ ، أو “ نسيمًا يتكاسلُ في الغصون “ ، وأن “ الماءَ كان حمامة ً “ ..وهكذا وعبر نصوصه  يبتكر لنا أو لنفسه حياةً جديدةً لأن “ الحياة “ المعاشة هذه ـ كما يراها ـ “ محض عذاب “ ..وعلى رغم امتلائه بالعذابات ، وعلى رغم يقينه العميق بأن الموت يبحث عنه ، ظل متشبثًا بالحلم ، وبصوغ غناءٍ يليق بتلك الفتاة التي يهوى ، لأنه يرى أن “ الخائفين من الموت سيحملونه على أكتافهم “ .. فهو يعشق كما لو كان العشق  هروبًا من وجه هذا الغامض المخيف الموصوف بكونه “ موتًا “ ..إنه حين يتناول تيمة العشق ترّقُ نصوصه كثيرًا وتصفو ، مثلاً :  “ في فيّنا أربع مرايا يلهو عليها فمك “ ، أو “ سأرقصُ معك ِ ، انظري إلى اليواقيتِ تكسو ضفافي “ ،أو كما قال متلبسًّا بأجمل بوح تهندسه لغة العشق العذبة الصافية  : “ إذا هبّت ِ الريحُ برفق ٍ / يأخذُ قلبيَ شكل فتاة “ ...أخيرًا أقول : ماذا صنعتَ بيَ الليلةَ ، يا فيديريكو غارثيا لوركا ؟  16 هذا الكتاب الجميل القديم الضخم : “ تاريخ الشعر الصيني المعاصر “ ،  أعدته الفرنسية باتريسيا غويللرماز ، و اختارت نصوصه الفاتنة ووضعت نبذة عميقة مقتصدة عن كل شاعر ، ترجمه وراجعه الرائعان نعيم الحمصي وعبدالمعين الملوحي..أخترتُ منه هنا هذه الومضات : (1) الزمن مقص مزدوج والحياة ثوب مزركش يقطعه المقص قطعة بعد قطعة .  * وانغ تسين - تشو (2) الحياة شجرة حافلة بالأزهار . * وانغ تسين - تشو (3) أيتها العشبة الغضة تحت قدمي عفوك عني .. أنا أدوسك لحظة ، ويدوسني الناس إلى الأبد . * بان مو - هو (4) الحزن ليس له أبدا وجه قاس ، إنه بحيرة واسعة يغطيها القصب . * سيو  يو - نو (5) الحياة سهم يطلق على البحر .. * كو  مو  - جو (6) هي الشمس وأنا ضوء الشمعة هي البحر الواسع الصاخب وأنا غديرها الصغير . * تشو  تزو - تسينغ (7) الرحمة ، وهي تكتسي تنورة طويلة بنفسجية .. تبتسم لي أنيسة ناعمة ، وتحسر عن شعرها الأسود الظنون . * لي  كين - فا (8) في جانب ، جدار صغير من التراب يخفي رجلا يعزف على عود ذي ثلاثة أوتار .. ولكن الجدار لا يحول دون الألحان . * شين  يينغ - مو (9) حياتنا مثل الريف خارج نوافذنا .. * فينغ  تشو (10) في هذا الشفق ظلال حلوة تذهب وتجيء مطمئنة . * ليانغ  تسونغ - تي . (11) لا تتركي الحب في الوحدة والسواد.. وليدخل كأنه ضيف غير مدعو . * لي  كين - فا (12) ذكريات وردية كأنها دواب متفسخة على حافة الطريق ، تنشر رائحة غريبة . * لي  كين - فا (13) جناح روحي مبلل بندى الأزهار .. * لي  كين - فا