
منذ أن شدّ الإنسان رحاله إلى البحر، كانت الشباك وسيلته الأولى نحو الحياة، وذراعه الممتدة في عمق الموج لالتقاط رزقه وطمأنينته. على امتداد سواحل المملكة، من جازان إلى القطيف، ومن ينبع إلى دارين، ظلّت صناعة شباك الصيد واحدة من أقدم الحرف التي وُلدت من رحم الضرورة وتربّت في كنف الصبر والدُّرْبة. لم تكن تلك الشباك مجرد أدوات، بل خيوطًا نسجها البحّارة بحنكة اليد وبصيرة العين، تروي سيرة الأجداد ومواسمهم، وتعكس وجوههم السمراء التي استعارت لونها من شمس البحر وملوحته. وفي خضمّ التسارع الصناعي والتقني، تبقى هذه الحرفة شاهدًا صامدًا على جمال التفاصيل اليدوية ودقة المهنة التي تسكنها الروح. واليوم، ومع احتفاء المملكة بعام الحرف اليدوية 2025، يتجدّد الاهتمام بهذه الصناعة التراثية، لا باعتبارها ماضٍ يُستعاد، بل بوصفها ميراثًا حيًا يربط الأجيال بالبحر، ويُعلّمهم كيف يكون للرزق خيط، وللتراث عُقدة لا تنفك. مهنة الأجداد كانت صناعة الشباك جزءًا لا يتجزأ من هوية الساحل السعودي، فهي مهنة حملها الآباء وورّثوها للأبناء منذ عصور بعيدة، حين لم يكن البحر مجرد مورد، بل معلمًا وسندًا ونافذة على الحياة. وعلى امتداد سواحل الخليج العربي والبحر الأحمر، نشأت مجتمعات اعتمدت على البحر اعتمادًا شبه كامل، وكان غزل الشباك يدويًا أول ما يتعلّمه الصياد الشاب من أبيه أو جده، جنبًا إلى جنب مع فنون الإبحار والتجديف. في القرى الساحلية مثل دارين والقطيف وجازان، ومراكز الصيد مثل ينبع والجبيل والشقيق، ارتبطت الشباك بالحياة اليومية؛ لم تكن مجرد أداة صيد، بل رمزًا للكدح والإصرار. إذ كان الصياد يحاكي حركة الأسماك وحالة المدّ والجزر وهو ينسج شبكته، مستخدمًا خيوط الصوف أو النايلون أو الحرير الطبيعي، لتتحول في نهاية المطاف إلى مصيدة دقيقة وعالية الحرفية. هذه المهنة لا تُكتسب من الكتب، بل من المعايشة اليومية، ومن ساعات طويلة تحت ظل الأشجار أو على الشاطئ، حيث يُتقن الحرفي ربط العقد وتحديد الفتحات وفق نوع السمك المراد اصطياده. إنها ليست فقط صناعة، بل ثقافة عريقة تحكي عن علاقة الإنسان بالبحر، بالصبر، وباليد التي تعمل دون كلل. خرائط البحر تختلف أنواع الشباك وأشكالها وأحجامها تبعًا للموقع الجغرافي ونوع السمك المستهدف، وهي انعكاس حيّ لتنوع البيئات البحرية في المملكة. ففي سواحل الخليج العربي، ولا سيما في القطيف والجبيل ودارين، يعتمد الصيادون على شباك مثل “الغزل” و”المدوّر” و”الجلب”، وتُستخدم غالبًا لصيد الأسماك المتوسطة مثل السبيطي والهامور والروبيان. أما على سواحل البحر الأحمر، في جدة وينبع وجازان، فتظهر تسميات أخرى مثل “الشعي” و”السنّارة” و”المجرور”، ولكل نوع من هذه الأنواع طريقة خاصة في الصناعة، تتعلّق بعدد الأيادي المشاركة في الرمي، وعمق المياه، وطبيعة التيارات. يعتمد تصميم الشباك التقليدية على دراية دقيقة بخصائص البيئة البحرية المحيطة، إذ يعرف الحرفي الخبير أن نوع القاع؛ صخريًا كان أم رمليًا، يُحدد طريقة تركيب الشباك وطبيعة الثقل المستخدم في أطرافها. كما أن درجة ملوحة المياه تؤثر في اختيار خامة الخيوط؛ ففي المناطق ذات الملوحة العالية، يُفضل استخدام خيوط النايلون المتينة أو خيوط الحرير السميك. وتُفصّل شباك الروبيان بعيون صغيرة جدًا لا تتجاوز 3.5 ملليمتر لتتناسب مع حجم الفريسة، بينما تحتاج شباك الكنعد والهامور إلى فتحات أوسع، وتُجهّز بعوامات مصنوعة تقليديًا من الكَرَب ـ أي جذوع النخل المجوّفة ـ لتبقى الشباك طافية على سطح الماء، وهي تقنية متوارثة في المنطقة الشرقية. وهكذا تصبح الشباك خريطة بحرية مصغرة، تُفصّل بمقاسات دقيقة على يد حرفيين ورثوا المهنة عن آبائهم. إن كل عقدة تُربط في هذه الشباك تحمل معها معرفة بالبحر وتيّاراته وأسراره. إنها ليست مجرد أداة للرزق، بل امتدادٌ لحسّ المهنة، وذاكرة محفوظة بين أنامل الصياد، تشهد على فصول من الحذر، والتخمين، والمراقبة الدقيقة لحركة البحر. وقد أثبتت التجارب أن هذه المعرفة التراثية، رغم بساطتها الظاهرة، أكثر فاعلية من كثير من الأدوات الحديثة التي تفتقر إلى الفهم الحدسي للطبيعة. أدوات لا تُنسى لا تُفصل صناعة الشباك عن باقي أدوات الصيد التقليدية التي كانت ترافق الصياد في رحلته الطويلة، كـ “القراقير” التي تُعد من أقدم الوسائل المستخدمة، وتصنع من الأسلاك أو سعف النخيل، وتستخدم لصيد الأسماك ببطء وصبر. وهي تتطلب مهارة في الحياكة وتقدير الزوايا وأحجام الفتحات بما يناسب حجم السمك. كذلك “السنّارة”، و”الجلب”، و”المدوّر”، و”السالية”، و”الجاروف”، وغيرها من أدوات الصيد التي برع الحرفيون في صناعتها يدويًا، واستمروا في تطويرها بما يحفظ تقاليدهم ويواكب احتياجاتهم. حتى أدوات الصيانة لها مكانها، مثل “المكسار” و”المقاس” و”الإبر الخشبية”، المستخدمة في شكّ خيوط الشباك أو ترقيعها عند التلف. وتكمن أهمية هذه الأدوات في كونها امتدادًا لخبرات البحّارة، وهي وإن بدت بدائية للبعض، إلا أنها كانت وما تزال فعالة، وتُستخدم اليوم في كثير من مناطق المملكة، لا سيما خلال مواسم الصيد التقليدي أو في مهرجانات البحر التي تحاكي الحياة القديمة. وصل الحاضر بالماضي شهدت المملكة خلال السنوات الأخيرة احتفاءً واسعًا بالحرف اليدوية البحرية، في مهرجانات وفعاليات متعددة، أبرزها “مهرجان الروبيان” في القطيف، كما حظيت حرف البحر بأجنحة وفعاليات وأنشطة خلال “موسم رمضان” في جدة، و”مهرجان شتاء جازان”، و”فعاليات الليوان” في الدمام، وكلها سلطت الضوء على صناعة الشباك وأدوات الصيد. وفي هذه المناسبات، يقف الحرفيون كالرواة، يشرحون للزوار طرق صناعة الشباك، ويمارسون الحياكة الحية أمامهم، كأنهم يعيدون الحياة للبحر على اليابسة. الزوار، من المواطنين والمقيمين، يرون في هذه المهن بصمات من الكدّ والتفاني، ويُدركون كم من الصبر والجَلد يحتاجه الحرفي لصنع شبكة واحدة من خيوط الغزل، تستغرق أحيانًا أكثر من شهر. هذه الفعاليات ليست فقط استعراضًا تراثيًا، بل إعادة وصل بين الحاضر والماضي، وترسيخ لمفهوم الهوية البحرية التي صنعتها أيدي الأجداد، وهي وسيلة مثلى لإبقاء هذا التراث حيًا ومؤثرًا في ذاكرة الأجيال. مدارس من خيط تسعى المملكة ضمن رؤيتها 2030 إلى تأهيل الأجيال الجديدة لمزاولة الحرف التقليدية بوعيٍ معرفي، حيث تعمل المؤسسات والمراكز على تعليم فنون صناعة الشباك وأدوات الصيد ضمن برامج متخصصة، بالتعاون مع الجمعيات التعاونية للصيادين، ومراكز البحوث البحرية، ومبادرات هيئة التراث. وفي هذا السياق، يتحول الحرفي إلى معلم، والشبكة إلى كتاب، يتعلم فيه الطالب معنى الدقة والاتزان والصبر، ويتعرّف من خلاله على تاريخ مجتمعه وتفاصيل معيشته. ولا يقتصر التعليم على الجانب الفني فقط، بل يتعداه إلى فهم البيئة البحرية وطرق الحفاظ عليها، بما يضمن استدامة الحرفة والثروة السمكية. هكذا تنمو حرفة صناعة الشباك في المملكة، لا كذكرى، بل كفنّ يُمارس، ومصدر دخل مستدام، وأحد أعمدة الاقتصاد الإبداعي المحلي، الذي يعيد للبحر هيبته، وللخيط معناه، وللمهنة مكانها الحقيقي في وطنٍ يربط الماضي بالمستقبل بخيوطٍ تحمل رزق البحر.