جدتي وصراع « السرديات»

كانت جدتي رحمها الله تسرد لنا الكثير من الحكايات ، وكانت تستخدم مهارات متعددة في سردها، مهارة التشويق، مهارة تصوير الأماكن والشخصيات وتسلسل الأحداث، وكانت الحبكة الدرامية هي أجمل فصول تلك الحكايات، إذ كانت تشكل ذروة التشويق لدينا، حالها كحال بقية الجدات في سرد قصص ما قبل النوم لأحفادها. تلك الحكايات والروايات رغم نبل أهدافها وبساطة طرحها الذي يختلف من جدة إلى جدة إلا أنها كانت تشكل لدينا وعيا ما أو تصورا ما، يسترجع من الذاكرة فور حدوث موقف مشابه نصادفه في حياتنا. هذه المقدمة في - اعتقادي- تحكي مفهوم السردية بشكل مبسط جدا في الماضي، أما في زمننا الحالي فقد أصبحت الجدات هي وسائل التواصل الاجتماعي، والبرامج الوثائقية، والبرودكاست والمنصات الإعلامية وغيرها من وسائل الإعلام الرقمي الحديث، التي تختلف في طرحها كاختلاف طرح جداتنا( مع فارق التشبيه من حيث الهدف ومستوى النزاهة). هذه الوسائل تنتج محتويات جيدة في أغلبها ومع التكرار تصبح هذه المحتويات «سرديات» تشكّل تصوراتنا التي نعكسها على واقعنا، وبالتالي على خياراتنا وأفعالنا. ورغم وجود هذا المحتوى الإيجابي إلا أن هناك جانباً مظلماً في هذه السرديات تحدث عنه قبل فترة بوضوح وشفافية المتحدث الرسمي باسم رئاسة أمن الدولة عندما أشار إلى وجود سردية موجهة ضد السعودية تهدف إلى إبعاد الأفراد عن هويتهم وقيمهم وثقافتهم، وفصل المواطن عن جذوره وثوابته، وبثّ بذور الشك في الثوابت الراسخة التي قامت عليها هذه البلاد المباركة. هذه السردية التي ذكرها المتحدث تتطلب في مواجهتها تحصينا فكريا ومعرفيا مبنيا على التمسك بتعاليم ديننا الحنيف أولا ثم الاعتزاز بالانتماء لهذه الأرض المباركة وإرثها الحضاري، وتعزيز سرديات بديلة كالتسامح والتماسك الاجتماعي والوسطية لبناء جيل مسؤول وعقول محمية من تلك الأفكار المضللة، في زمن أصبحت فيه السيطرة على العقول تسبق السيطرة على الأرض، ولنعلم جميعا بأن بداية هذا التحصين تنطلق من المنزل والأسرة أولا، ثم المدرسة والمسجد، مرورا بالإعلام بكل مشتقاته، والأصدقاء والمجالس ومراكز الأحياء. فكلنا راع ومسؤول عن رعيته. ولأن الشيء بالشيء يذكر، لاحظ العديد من المتابعين في الآونة الأخيرة تلك الهجمة الشرسة على هذه البلاد المباركة استندت أيضا إلى سرديات مشوهة قامت في الأصل على تزوير التاريخ والحقائق وتقزيم منجزات استثنائية بكل المقاييس حققتها المملكة العربية السعودية خلال فترة بسيطة عجزت عن تحقيقها دول عبر سنين من الزمن، حيث سجلت أعظم قصة نجاح خلال العقد الأخير حتى أصبحت ضمن أعظم 20 دولة في العالم (G20) ، تعيش في سلسلة من التطورات والتحولات المتسارعة جدا قفزت بها إلى أعلى المؤشرات العالمية، والأرقام لا تكذب، فقد اختصرت الزمن ووصلت إلى أهداف عجز عن تحقيقها الكثير من دول العالم في فترة قياسية تشبه الحلم، حدث كل هذا وسط هذه الأزمات العالمية ، والتحديات الإقليمية، والتحولات السياسية والاقتصادية التي عصفت بالكل إلا بهذا الجبل الشامخ. هذه المكتسبات والمنجزات يجب علينا أيضا اظهارها كسردية حقيقية تبني ذاكرة صادقة قائمة على الحقائق والأرقام، نفخر بها وتفخر بها الأجيال القادمة، ويجب على الإعلاميين والمؤثرين وأصحاب الكلمة اظهار هذا الحق المشروع وتوعية الشباب بمنجزات وطنه والمحافظة عليها، مع تسليط الضوء على جوانب الفخر والاعتزاز بهويتنا وثقافتنا، وكما إننا نحرص على معرفة الآخر، لابد للآخر أن يعرف من نحن وإلى أين وصلنا، فالحق تغيب شمسه إن لم يظهره أصحابه. *عضو الجمعية السعودية للعلوم السياسية.