اللغة التي تمشي حافية

في صباحٍ غير محدد الملامح, قبل أن يستيقظ ضجيج الأسواق وتُنشر الصحف الحكومية, وقف شيخٌ في زاوية من زوايا لكنؤ* المدينة التي تمشي بأقدام المكتبات, وقال بهدوءٍ يخصّ العارفين: «العربية لا تُدرَّس, بل تُستحضَر « لم تكن الجملة إعلانًا, بل نبوءة. تلك اللغة التي لم تكن لغة الهند, ولا لسان الدولة, دخلت المدن الهندية بخفةٍ لا تُرى, تسللت من مساجد قديمة, وعلِقت على جدران المعاهد, وخرجت في شكل مجلات لا يعرفها إلا من أحبّ الكلمات حبًا دينيًا أو شعريًا. في عام 1959, خرجت إلى النور مجلة «الرائد» , من دار العلوم بندوة العلماء في لكنؤ, لم تكن نصف شهرية فقط في انتظامها, بل كانت نصف خيال, نصف يقظة, كل عدد منها كان يشبه رسالةَ حبّ مكتوبة إلى اللغة, بخطّ يد طالبٍ يعاني من ضعف في الكهرباء, لكنه قويّ الإيمان بالحرف. وبعدها بعقدٍ, أنجبت جامعة بنارس مجلةً باسم «صوت الأمة» , لم يكن الاسم مجرد صدًى لدعوة, بل شجرة تنمو في أرض جافة, تغيّرت أسماؤها مثل كل الكائنات التي تُلاحقها القوانين, من «صوت الجامعة» إلى «نشرة الجامعة» , ثم إلى اسمها الأخير, كأنها تبحث عن هوية ضائعة وتجدها في كل مرة, لكن باسمٍ جديد. في ديوبند, حيث الحروف تُقرأ مثل التعاويذ, قرر الأستاذ وحيد الزمان الكيرانوي أن يصدر مجلة «دعوة الحق» , ثم جريدة «الداعي» , التي أصبحت لاحقًا أنفاسًا شبه مقدّسة لدار العلوم, الصحافة هناك ليست مهنة, بل طقس, كل عدد يُجمع كما تُجمع أوراق الشجر قبل موسم الرياح, ويُقرأ كما تُقرأ كتب الحِكم. أما مجلة «المجمع العلمي الهندي» , فكانت أقرب إلى مختبر لغويّ, تصدر كل ستة أشهر, لكنها تبقى حاضرة كأنها يومية, تحوي مقالات لا تُقرأ, بل تُذاق, وتقدّم تاريخًا لغويًا حميمًا, كأنه سيرة ذاتية لشيخٍ يتحدّث مع الحروف لا عنها. في الجنوب, حيث اللغة العربية أبعد من حدود الجغرافيا, تصدر مجلة «الفرقان» من ولاية بيهار, و»الصحوة الإسلامية» من حيدر آباد, و»النور» من أورنج آباد, و»الجامعة» من كيرالا, كل واحدة منهنّ تشبه مرآة صغيرة في جيب شاعر, لا تكشف وجهه, بل تكشف ما وراء وجهه. وفي عام 2008, ظهرت مجلة «أقلام واعدة» كحلمٍ جماعيّ لأساتذة العربية في الجامعات الهندية, لم تكن فقط محاولة لتعريف القارئ الهندي بالحداثة الأدبية العربية, بل كانت إعلانًا بأن الحبر يمكن أن يسافر أبعد من الحدود السياسية, وأن القصيدة يمكن أن تُولد بين جدران لا تشبه بغداد ولا دمشق, لكنها تحلم بهما. إن هذا الحضور المكثّف للمجلات العربية في بلدٍ لا يتحدث العربية ليس مسألة إحصائية, بل قصيدة في مقاومة النسيان, تخيل مجلة تصدر شهريًا منذ نصف قرن بأيدٍ لا تتقن العربية كأهلها, لكنها تُحبها أكثر من بعض أهلها. ما معنى أن تصدر مجلة علمية أو أدبية بلغةٍ ليست رسمية, في بلدٍ لا تحتاج العربية فيه للحصول على وظيفة أو لاجتياز اختبار؟ الجواب واضح كالشمس, لكنه غامض كالمطر: اللغة هنا ليست وسيلة, بل غاية. إن كنت تظن أن العربية تموت في المهاجر, فانظر إلى الهند, لغةٌ تُقرأ كأنها صلاة, وتُدرَّس كأنها نَسب, وتُحبّ كأنها أمّ غائبة. اللغة العربية هناك لا تحتاج إلى اعتراف, هي تمشي حافيةً, بشعرها الطويل, في شوارع لكنؤ, وتدقّ أبواب القرى بصبرٍ, وتكتب نفسها على الجدران دون تصريح. وإذا سألك أحدهم: «ما معنى أن تصدر مجلّة بالعربية في الهند؟» قل له: «هذا يعني أن اللغة, حين تحبّ, لا تسأل عن الجنسية» . * مدينة لكنؤ هي عاصمة ولاية أتربرديش في الهند