القصة النسوية السعودية بين جيلين..

قراءة في مجموعتين قصصيتين يفصلهما 18 عاماً (2-2).

في مقالة سابقة قدّمت قراءة مختصرة لنماذج من القصة القصيرة النسويّة تنتمي إلى ما قبل عقدين من الزمان ، وفي هذه المقالة سأعمد إلى مجموعة أخرى حديثة في محاولة لاستكشاف الظواهر الجديدة التي طرأت خلال هذه الفترة، وقبل هذه القراءة أود أن أشير إلى أهم تلك الظواهر الحداثية التي رصدها النقاد تتمثّل فيما يأتي: الخروج عن البناء التقليدي (البداية، الذروة، النهاية) واستبداله بأساليب أكثر حرية لا تلتزم بهذه السيمترية الناظمة لنسق النص السردي ، والتقاطع مع أجناس أدبية أخرى مثل الشعر، المقال، المسرح واستخدام تقنية “الراوي غير الموثوق “ وما يعرف بكسر الجدار الرابع ؛ كتلك القصص التي تعتمد على الأصوات الداخليّة أو أحلام الشخصيات ، وبروز ما يُعرف بـ”القصة الومضة” أو “القصة القصيرة جدًا” التي قد لا تتجاوز سطرًا أو فقرتين أو بضعة جمل ، واستخدام الصور والمقاطع الصوتية والفيديو كعناصر مرافقة أو مُدمَجة في السرد القصة ، ولم تعد محصورة في القضايا القومية والسياسية فقط،؛ بل تناولت موضوعات، مثل:لاغتراب، الهُوية، الجسد، العنف النفسي، النوع الاجتماعي (الجندر) البيئة، التكنولوجيا، الهجرة، التفكّك الأسري التركيز على دواخل الشخصيات، وصراعاتها الداخلية والاعتماد على تيار الوعيStream of و Consciousness.إبراز التناقضات النفسية والتشظّي الذاتي، خاصة في شخصيات النساء والشباب . وكذلك تفكيك الحبكة في القصّة الحداثيّة، قد تغيب الحبكة التقليدية تمامًا، أو تُفتّت إلى مقاطع ومشاهد ، لا تخضع لمنطق تسلسلي صارم، مما يعكس الفوضى واللايقين في عالم ما بعد الحداثة واللغة الشعرية والانزياح، و تستند القصة الحداثية إلى لغة إيحائية، مكثّفة، مليئة بالرموز والانزياحات اللغوية، مما يُضفي عليها طابعًا تأويليًا. وغياب النهاية التقليدية فلا تهتم القصة الحداثية بوضع نهاية مغلقة أو موعظة صريحة، بل قد تنتهي على مشهد مفتوح يثير أسئلة أكثر من أن يقدم أجوبة ، وكسر التراتبيّة الزمنية ؛ فالزمن في القصة الحداثية غير خطّي، يتداخل فيه الماضي والحاضر والمستقبل، مما يخلق بناءً سرديًا معقدًا يشبه تيار الوعي والبطولة اللامركزية. ولم تعد القصة الحداثية تحتفي بالبطل التقليدي، بل تركز على المهمشين، والضعفاء، واللامرئيين في المجتمع، وتعكس حالات الانكسار الداخلي والنفسي والتركيز على الذات والهامشي، ويغلب على القصص الحداثية الطابع النفسي أو التأملي، وتتمحور حول تفاصيل الحياة اليومية أو مشاعر القلق والاغتراب الراوي غير الموثوق المتردد أو المتشكك، مما يفتح الباب أمام تعددية التأويل والقراءة. هذه الظواهر المجملة التي تتميّز بها القصة الحديثة كما رصدها الباحثون ؛ ولكن القصة النسويّة بخاصة كان لها شأن آخر؛ فلم تعد تركّز على معاناة المرأة في المجتمعات التي تعاني من التخلف فحسب؛ بل تجاوزت ذلك إلى رصد المآزق النفسية والاجتماعية واللحظات الإنسانية التي تمر بها المرأة بصفتها الأنثوية بوهجها الشعوري؛ فضلا ًعن اللقطات الحيّة التي ترصدها العدسة الوصفية للمآزق والمواقف المختلفة ؛ فهي تتقاطع مع الهموم التي رصدتها الحركة النسوية بعامة، ملتقطةً وهجها وسطوعها في وجدان المرأة بوصفها كائناً اجتماعياً له عالمه الخاص ؛ فقد بدت المرأة أكثر إحساساً بشعورها وتحقّقها الذاتي في مجتمع لم يعد بقادر على تجاهلها ، وفي ذات الوقت تجدّدت أدواتها وتقنيات الكتابة عندها ، وقد حاولتُ أن ألتمس بعضاً من هذه الظواهر في نماذج اخترتها على نحو عشوائي من مختارات الأديب القاص خالد أحمد اليوسف (مئة قصة قصيرة من السعودية). في قصة (شاهد للقاصة) خفيت بعض الظواهر التي تنبئ على ما طرأ على القصة القصيرة من تحولات في الرؤى و الجماليات ؛ فالراوي ليس ساردا تقليدياً ؛ بل كائناً غير بشريٍّ لم تصرّح الكاتبة بنوعه ؛ ولكن عبر متابعة الحدث تبين أنه أقرب إلى أن يكون طائراً فهو يتحدث عن ارتياده للحاويات، ويعبر عن حركته بالطيران “ مر بجانب الحاوية متشرد؛ ... اقترب مني أكثر طرت بعيدا عنه إلى الجدار” فثمة خروج على البطولة البشريّة وتبني قلقها عبر استبدال الحيوان بها في قلق مُتخيّل وتمرّد على المألوف، وفي غموض وتشكيل أسطوريٍّ يتجاوز حراك التصاعد فيها ، وإن استثمرت الكاتبة عاداتها المألوفة وتبنت نهج الصراع الوجودي وتمثلت فلسفته . وفي قصة كفى عسيري (صمود) تبدّت شعريّة الخطاب والاستذكار، ووجدانية المعجم بحقوله الدلالية متعاليةً على النهج السرديّ المألوف مستبدلةً به لغة مجازيّة محلّقة في فضاءاتٍ بكر معبّرة عن اشتعالٍ داخلي؛ ومترجمة وجع الفقد وآلام الرحيل ، مبحرةً في سديم الذكريات وعباب الأمنيات في انثيالات وجدانية، وتوحّدٍ صوفيٍّ ومتبنّية لوحةً سردية تنتمي إلى وهج اللحظة مضمّخة بعبير الافتقاد ، وفاجأتنا الكاتبة بأن الخطاب المفتوح رسالة استذكرت فيها لحظات قاسية بثّت عبرَها ما احتشد في صدرها من ألم أذكتهُ لحظات قاسية في انتظار أن تتحرّك الموجة و تتدثّر باللحظة الفارقة وهي تشعر بتسمّر الوقت واختفاء عقارب الساعة؛ ثمة ثلاثيّة عزفت الكاتبة على أوتارها في بثّها النفسي والوجداني الزمان و المكان وما اعتورهما من تحوّل في الصفات والمآلات نتيجة للحالة النفسية الشعورية ، و كذلك الإشارة إلى الحقيبة التي ترمز إلى الرحيل والفراق، حقيبة تفرّدت بالصفات و الوظيفة، وانفتحت على أفق التأويل، بها ابتدأت و انتهت متحدّثة عن المنفذ في البادية والنهاية، وجاء تعقيب الساردة التي التقطت المشهد واستنطقته عبر سردية ختاميّة قصيرة، كشفت فيها عما أكملت به المشهد الأطفال والطاولة الصغيرة و المعجّنات، خاتمة مضيئة في لحظة تنوير غامضة كاشفة ، وبنية وصفيّة شعريّة احتدمت فيها دراما داخلية تستوقف القارئ وتحمله على أجنحة التأويل، وتنقله إلى العتبة الأولى (صمود) وهي حجر الزاوية في الكشف والبوح والتأويل. وفي قصة الكاتبة مسعدة اليامي (اسم في لوحة الشرف) وهو عنوان ينبني على مفارقة ساطعة ضدّية الدلالة لما انتهت إليه الوقائع ، تتمثّل هموماً اجتماعية قديمة راسخة ؛ فالفقر وسواد البشرة وتعدّد الزوجات والجهل والعادات الجائرة لحقت بالمرأة كل ضيم ؛ تُروى القصة على لسان سارق محترف تزيّا بزي امرأة تم القبض عليه ، وقد عمد إلى استعادة ماضيه بوساطة تقنية (الاسترجاع) الفلاش باك مُستلاً الجذور التي استنبتت هذه الجريمة، فهو يحشد كل الآفات الاجتماعية من تعدد للزوجات رغم الفقر المدقع، وقبول المرأة بما ورثته من مهانة لمسألة التعدّد رغبةً في أن تستظل بظل الرجل الذي يحميها ؛ فهي تتزوج ليس استجابة للدوافع الطبيعية التي تستلزم هذا الزواج وفق الفطرة البشرية ؛ ولكن لتتجاوز مهانة بقائها عزباء ؛ معبّراً عن ذلك بعبارة عامية (علشان تلبس الخرقة) والكاتبة تعقب على ذلك تعقيباً مباشراً في خطاب تقريري يعبر عن هذا المعنى دون أن تترك المجال للقارئ حتى يستنتج ذلك بنفسه ، وهي تعمد إلى الأسلوب التحليلي الذي يتكئ على أدلة ساطعة مباشرة ، وتتمثل صورًا فنية تشكل معادلاً موضوعياً لما تريد التعبير عنه: صورة الأم التي تستغرق في الإنجاب في مضمار التنافس مع الأخريات في هذه المسألة فتشبهها بالأرنبة ، وتشبه امرأة الأب بالدجاجة التي تتبع صيصانها خارج القفص وتمثل نمطاً آخر من النساء ، وتشبه الزوجة الأخرى بالقطّة الشرسة ، والأولى بالبقرة الحلوب ، وتكتب النهايات فيما خلّفه ذلك كله مختصرة ًإياه بالعار الذي جلله وغطى على سمعة أسرته التي أصبحت تنعت بانتمائها إلى أبيها السارق .. ثلاثة ظواهر في هذه القصة (البطل المهمش اجتماعيا والمدان قضائي) و (اقتصار السارد عليه بضمير المتكلم ) فيما يشبه الاعتراف، وفي الوقت ذاته تصوير الأزمة وإدانة صاحبها وتشكيل لحظات التوتّر والقلق ممتدة حتى النهاية . في قصة (أكاليل علي) لبلقيس الملحم نزعة تحديثيّة ذات نكهة تاريخيّة تتقاطع مع الأسطورة و الحكاية الشعبية والتراتب الاجتماعي، فيها روح التراجيديا وملحمية البطولة؛ كثافة وأمداء زمنية واسعة وومضات الذاكرة وقبسات الأوتوجرافيا، وانزياحات المجاز واستعاريات الشعر ، نقلات مفاجئة في السرد تقفز من محطة زمنية إلى ألأخرى ومن فضاء مكاني إلى آخر، ونزعة وصفية تستحضر الماضي منتقية للحظات نادرة فاصلة لا تلتزم بالتتابع والترادف ، والامتياح من الماضي تستجلبه اللحظة ، مأساوية الموت وصدمة الكارثة بين اللحظات العابرة والمهنة المستقرة ، تكثيف للحظات المؤثرة واستجلاب للأبعاد الإنسانية التي تتجاوز الانحيازات المذهبية توحدها المصائر عبر استجلاب الأمكنة الرموز (الحسينية والجامع) الموت تتوحّد فيه المشاعر وتتآلف الطقوس ، إضمامة تتجمّع فيها ملامح الإنسان يذيبها الحزن ويقربها الألم، قصة تجمع بين أشتات مجتمعات تطل بها الكاتبة على مندى أرحب وتتركز رموزها في العتبة العنوان (أكاليل علي) ما أبعد الشقة وما أقربها بين التوابيت والأكاليل. وهكذا فإن ثمة ظواهر حداثية بارزة في القصة النسائية تكشف عنها هذه النماذج.