قراءة في ديوان الشاعر محسن علي السهيمي (وجه الصباح)..
اتجاه وجداني ورؤىً إنسانيّة ووطنيّة وآفاق رحبة واستثمار للقناع والتناصّ.

منذ القصيدة الأولى في هذا الديوان يتبدّى نهج الشاعر في قرض الشعر متجاوزاً تصنيفات التقليد والتحديث ،محلّقاً في أفقه الخاص ، يستدعي قناعه الذي يختلف عن مألوف أقنعة الشعراء، عصفور مرتبك يروي قصة الوجود ويتغنّى بالحرية و الجمال والانطلاق والسعي إلى الانفلات من ربقة الحدود و السدود ، سالكاً سبيل الشعر في بكارته نغماً موقّعاً وغناءً مردّداً ، فالعصفور هو الشاعر وقد اقترض منه جناحيه وزقزقته وانطلاقته ومأساته ، فنظم سرديّته الخاصة متقمّصاً عصفوره الطليق ، أدار حواراً معه متوحّداً فيه (قصة تروى لقلبي و لكا) متدفّقاً ينبوعاً من بوْحٍ صافٍ ولحنٍ شجيٍّ في تقصٍّ لرحلة الحياة وفلسفة البقاء : يشدو للحرية ويتغنى بالجمال ، يحثّه الشاعر على البوح ، يروي تجربته ، إنما هو هذا العصفور الذي يهيم بحرية مطلقة لا يصدّه عن المخاطرة خوف و لا وجل ، يستعير لنفسه مختلف سمات الصفاء و النقاء في انسيابٍ وتداعٍٍ : نقاء الماء و زهور الروض ونار الشوق وجحيمه و نزف الجراح متحدّثاً عن تقلّب الحياة من النقيض إلى النقيض : تداع وانثيال و انقلاب من حال إلى حال ؛ فنحن أمام شاعر يختزل تجربته الحياتية على لسان العصفور القناع معبراً عن ثلاثيّة الرحلة الوجودية انطلاقةً حرّةً والتماساً للجمال و الجلال ، ثم إخفاقات وتحوّلات واستلاب و رسوّ في مرفأ الإخفاق و الأحزان ، ثم انفجار في البكاء و انهيار أمام أحداث الزمان . صورة سرديّة تستغرق القصيدة ، تستلهم التحوّلات وتتقصّاها في تتابعها، تتلمس ظواهرها ونقتنص تفاصيلها، و تستنبت الأسئلة في سديم رؤاها، فتبدأ في قبو الأحزان ومن دياجير الليل غارقة بمصفوفة متتالية من الأفعال الماضية(رقص الندى/ صرخ المدى / تكسرت مهج الصدى) صورة سرديّة معبأة بالمجاز الذي يتقاطع فيه التشخيص و التمثيل، موغلة في درجات الانزياح في سلّم الشعريّة ، يتلو ذلك حراك لغويّ يترتب فيه الفعل على ماقبله فيما يشبه البناء المنطقي ، يسلك الشاعر سبيل مايمكن أن يعرف بالترجمة المجازيّة التي تخترق الحجب ، وتعمل على تشكيل عالم كوني مشابه للعالم البشريّ ورسم المفارقات ، فنحن أمام عالم مفترض موازٍ للواقع يتدثّر بسمات الشعر ، فمن بوْح الصمت إلى مجامر الأحلام إلى مُقل الظلام ، ثم ينبري للمجرّدات و المُطلَقات من أسماء المعاني حيث الألم و الخطيئة والكمد واليأس والشمس و الفلق والزمن ؛ فنحن أمام عالم مدجّج بالأسئلة مُُلتفع بالأحزان و الأشجان ، و صور منحوتة من صخر اللغة مشتقة من نخاع إيقاعاتها ، وعلى الرغم من شيوع معجمها في حقول الشعر،فإن ملكة التصوير و التعبير تدور بها في فلك الخيال فتعيد لها بريقها و تمنحها ظلالاً جديدة؛ فمفردات الكون من قمر وظلام وفجر وفلق وإصباح وشفق - رغم دورانها في فلك القصائد- يمنحها الشاعر بريقاً جديداً ، مثل قوله “فاندلقت مواويل السحر / نقشت على مواويل الظلام” في سياقات متنوّعة وصفيّة و سرديّة ، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالمعاني المجرّدة المُطلقة . وفي إطار هذا المنحى الوجدانيّ الحزين تندرج قصائد عدّة في الديوان تمثّل لوناً من ألوان الرؤيا ، وهي في مجملها قصائد وجدانية رومانسية تأتي في سياق الشكل التناظري ، وربما بدا في بعضها ما يوميء إلى معارضات شعراء الإحياء لمن سبقهم من الشعراء القدامى ، كما نلاحظ في قصيدته(دموع لم يغيبها الزمن) التي يستهلّها بقوله: ما بال دمعك من عينيك ينسكب ياواحة التين و الزيتون والعنب. مما يستدعي إلى الذاكرة قول الشاعر ذي الرُّمة ما بال عينك منها الماء ينسكب كأنه من كلى مفرية سرب. وهي قصيدة وطنيّة خرج بها الشاعر من سياقها التراثي إلى آفاق تلامس جرحاً عميقاً في جسد العروبة ؛ إنه يخاطب فيها فلسطين حبث تتماهى لديه في تجليات شتى ، وفي توصيف الحزينة الموجوعة المتألمة والأم الثكلى ، وهو يفصح عن هويتها حين يتحدث عن القدس شاكياً باكياً مخاطباً أمّته وفي حلقِه غُصّة أشبه بتلك التي شكا منها عمر أبو ريشة: أمتي كم غصة دامية خنقت نجوى علاك في فمي وفي فؤاده ثورة بركانيّة مستدعياً الكواكب و النجوم و الكون و الكائنات لائماً ثائراً معاتباً ناعياً على الأمة عجزها و توسّلها بالشعر ، مستعينا بأساليب الاستفهام متمنّياً أن يأتي إليه صدى صوته الغضوب، ومن المعروف أن النداء لغير العاقل يفيد التمنّي ؛ فهو يتمنى على الصخرة الشمّاء والمسرى و المعراج أن ترد عليه: يا قبة الصخرة الشماء لا سلمت يد الظلوم من الأرزاء و اللغب ويا محطاً لمعراج به انبلجت شمس العدالة في الأكوان من حقب ويخاطب القدس ، ويعمد إلى تشكيل صورتين متناقضتين للماضي و الحاضر؛ فيشبّه ما آل إليه الأمر؛ إذ تحولت شمسها إلى قنديل عصفت به الريح ، ولكنه يظل يتذرّع بالأمل ؛ فالظلام لا بد أن يعقبه انبلاج النور مستدلاً بالوعد الحق؛ غير أنه يؤكّد أنه لتحقيق ذلك شروط؛ فهو لا يُرتجى بلذيذ النوم و الخطب و لا بالأحلام؛ ولكن بالجهاد و المجاهدة والعلم و العمل ، و ليس بالوقوف على الأطلال الدارسة ، وهو يراوح في أسلوبه بين التقرير و التعبير و التشكيل و التصوير . ليس بين قصائد الديوان ما يحمل عنوانه ؛و لكن أقربها إليه قصيدة عنوانها (صباحات) ولعل الوقوف على ما جاء فيها يكشف رؤية الشاعر ومنهجه في التشكيل : ففي هذه القصيدة يتغنى الشاعر بالصباح على إيقاع البحر الوافر ؛ وقد عمل على إعادة توزيع مفرداته في سطور شعريّة قصيرة ، وهو بحر سلس سهل الصياغة ، في حركاته وفرة وفي إيقاعه حيوية ، ويبدو فيه الشاعر متفائلاً يحشد له مفردات البهجة وحقول التفاؤل ويحتشد فيه بمفردات دالّة على حيوية الزمن وخضرة المكان وربيع الفصول، فهو ثريٌّ بألفاظ التعاقب الزمني الكوني و الطبيعي بينما يغيب الزمن التاريخي لأن الصبح مطلق الدلالة على كل زمن جميل ليله ونهاره وصبحه ومسائه ؛ وقد تنوّعت في القصيدة في أساليب الخطاب وطرائق الإنشاد ، وتقلّبات النفس وأحوال الروح، يطلق فيه ألحانه الشجيّة وإشراقاته البهيّة، ويسبح في ملكوت الكون مناغياً و مناجياً وشاكياً و متفائلاً ؛ يبوح بما يكنّه للصباح ويتوق إلى جماله وانفراجاته تارة ؛ ويخاطبة تارة أخرى متحدّثاً إليه ومتحدثاً عنه في التفاتات مفاجئة ، متمثلاً أحواله مستدعياً تباشيره مستثمراً قافيته المطلقة المنتهية بمَدٍٍّ تتلوه الهاء وكأنها آهات يطلقها في نهاية كل بيت : تباشير الصباح هواك أضنى فؤادي فاحقني – فضلا – دماه ولو استعرضنا مفردات القافية في القصيدة على هذا النحو ( صبا ه ، رباه ، مقلتاه ، دواه ، غناه ، نعاه ، رضاه ، جواه ، ضناه ، صباه ،دماه ، هواه ،مداه، مبتغاه ، الشفاه، ، مناه ) لوجدناها تقع في حقول دلالية تتراوح ما بين (الرضا والحزن والوجود و العدم) هذه الأوضاع الإنسانية التي تضم مختلف الحالات النفسيّة وتقلباتها ؛حيث ينتهي الشاعر إلى أن بلسم الشفاء هو الصباح الطروب في صفائه وجماله . و للزمن في هذا الديوان أهميته ، سواء كان زمناً خاصاً بصاحبه أو عاماً ؛ ففي قصيدته (رحلة الأيام) مقاربة للزمن في حراكه وفعالياته وخصوصيته شَجَنا و حُلُماً و ذكريات وتحوّلاً من حال إلى حال ،ومفارقات بين زمن مُرتجى وآخر يأتي على غير ما يرام ؛ وهنا يبلغ الذروة في خصوصيته عبر أسئلة فيها معنى الإنكار و التعجب يعقبه النفي تأكيداً ، و النداء رجاءً وخيبةً وخلاصاً ، تتداعى المعاني حاملة الشكوى و الرجاء على حدسواء: صغته لحناً شجيّاً فتهادى همسه في سمع أرباب المعاني ارفعوا الموّال للبحار حتى يحصد الدر فتنثال التهاني ويأتي الحديث عن الشعر مستوعباً لكل هذه المعاني في قصيدة للشاعر يعرّف فيها بالشعر ودوافعه وضروراته وغاياته تحت عنوان (هو الشعر) ملخّصا له في استجابته لدواعٍ عدة (إذا الروح ملت/ ضجيج البشر/ وجالت بفكرك/ أحلى الصور/ وهاج الحنين إلى موطنٍ / وجافى الحبيب وماد الزهر/ و ولى الشباب بأحلامه / وجاء الخريف / ودنيا العبر) هذه دواعي الشعر كما يحسبها الشاعر معلّلا لذلك بما يفعله الشعر رأباً لصدع النفس وخيبة الأمل و افتقاد الرجاء ، وما إلى ذلك مما أتى على ذكره الشعراء من قبل ؛ ولكن شاعرنا أضفى عليها رونقاً من روحه وحيوية من تمثّله في تفاصيل انثالت متداعية ، معبرة اعن فلسفته ورؤياه مستعيراً من أبي القاسم الشابي قوله متناصّاً معه في تقاطع مع بيت له ذائع الصيت شحنه بمفارقة شفيفة ( ومن فاته الشعر في عمره فلا بد أن يستجيب القدر ) ويطول الحديث عن هذا الديوان و ما حفل به من قصائد ذات سمة وجدانية متعدّدة الأبعاد سخيّة الدلالات ، فقد ضم ما يقرب من ثمانٍ و عشرين قصيدة حافلة بالرؤى تضم ضروبا من الموضوعات سخيّة رخيّة هادئة ، ولعلها تستدعي دراسة واسعة تلم بمختلف جوانبها.