
تكتسب النصوص التاريخية وكتب الرحلات والسير الذاتية وظيفة مزدوجة في دراسة صراع الهوية والمكان؛ فهي تجمع بين كونها: مصادر للأحداث، وأدوات لفهم الكيفية التي تتشكل بها السلطة والذاكرة في الفضاء الجغرافي. وعلى حين أن النص التاريخي الرسمي يوثّق ما أراد الحاكم أو المؤرخ المعتمد أن يُسجَّل ويُروى وتتناقله الأجيال، فإن أدبيات الرحلات والسير الذاتية تكشف عن الخبرات المعيشة والانطباعات الشخصية التي تعيد رسم المكان في المخيال العام. وفي المدن المقدسة، حيث تتقاطع الجغرافيا بالدين والسياسة، يتضح أن هذا التوظيف يتيح تتبّع تحوّل الطقوس إلى أدوات رمزية للسيادة، ورصد مقاومة المجتمع المحلي لهيمنة هذه الرموز أو إعادة تأويلها. وهنا تتداخل عدة أبعاد في القراءة: فمنها بُعدٌ يدرس صراع القوى على الرموز الدينية بوصفه صراعًا على رأس المال الرمزي والنفوذ. وثمة قراءة أخرى تكشف كيف تحولت بعض الطقوس إلى أدوات للهيمنة الخارجية. وثمة بُعد الهُوية، الذي صرّح به مؤلف كتابنا، وهو البُعد الذي يوضح كيف صاغت هذه الرموز انتماءات الجماعات وحدودها. وفي هذا الإطار يأتي كتاب «الركب: صراع الهوية والمكان»، الصادر عام 2024م عن مركز البحوث والتواصل المعرفي، لمؤلفه الأستاذ الدكتور عباس صالح طاشكندي؛ ليقدّم قراءة معمّقة لأحد أقدم الرموز المكية عبر العصور: المحمل، بوصفه مسرحًا لتجاذب الهويات والنفوذ السياسي. ينطلق الدكتور طاشكندي من مصطلح «الركب» الذي يتجذّر في اللسان المكي منذ العصر الجاهلي، مستعرضًا مساره حتى العصر الحديث، وكيف ارتبط بالحج ومواسمه، وكان مرآة لعلاقة السلطة السياسية بالحرمين الشريفين. ويعيد المؤلف ترتيب الحقائق التاريخية، موضحًا أن المحمل بمعناه الاصطلاحي كجهاز يحمل كسوة الكعبة ظهر في العصر العباسي بوصفه أداة لإعلان السيادة والهيبة، ثم توسّع في العصور المملوكية وتحوّل إلى مسرح احتفالي ضخم يخفي وراءه صراع النفوذ. وهذا يعبّر عن احتكار السلطة لإنتاج الرموز المقدسة وضبط تداولها. ويتتبع البحث انتقال سيطرة المحمل بين مراكز قوة خارجية، وفي أثناء ذلك يتضح لنا، أنه، على مستوى الهوية، شكّل رابطًا رمزيًا بين الحاكم ورعاياه ومواطني الحجاز. وقد شهدت الأركاب الحجية، في سياق هذا التاريخ المتقلب، انقسامًا واضحًا بين أركاب مرتبطة مباشرة بالسلطة وأخرى تابعة لها. وهذا التباين لم يكن مجرد اختلاف في التسميات أو المهمات، وإنما تحوّل أحيانًا إلى صراع حاد وأحقاد متبادلة بين الأركاب الرسمية والتابعة. وانعكس مع مرور الزمن هذا الانقسام على الأوضاع الأمنية في الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، وعلى الطرق المؤدية إليهما والواصلـة بينهما، حيث دخل ولاة مكة والمدينة في دائرة هذه النزاعات، وأصبحت ساحة الحرمين نفسها مسرحًا لتصفية الحسابات وإراقة الدماء. وهو ما يمكن قراءته كصراع على إعادة توزيع النفوذ داخل الحقل الديني والاجتماعي، إضافة إلى أنه من نتائج تداخل السلطات المتعددة في الفضاء المقدس، ثم هو كذلك عامل في تشظي الانتماءات بين ولاءات متنافسة. وعلى رغم هذه الجوانب السلبية فقد أسهمت الأركاب في إثراء الحياة الثقافية، إذ كانت بمثابة جسور للتواصل العلمي بين علماء العالم الإسلامي؛ ففي رحابها التقى العلماء وتبادلوا الإجازات العلمية، واستنسخ بعضهم كتب بعض، وتكوّنت من خلالها شبكات من المعرفة العابرة للحدود. وهكذا جَمعَت الأركاب بين كونها ساحة صراع سياسي وأمني، ومجالًا رحبًا لتلاقي العقول وتبادل الإرث العلمي. وقد كانت هذه المساحات العلمية إحدى صور المقاومة الرمزية، إذ استمرت في إنتاج المعرفة رغم السيطرة السياسية الخارجية، وأسهمت في تعزيز هوية عِلمية جامعة تتجاوز الحدود القُطرية. يرصد كتاب طاشكندي بدقة الوقائع التي عانى منها ركب الحجيج طوال ما يزيد على ألف عام، منذ بدء تفكك الدولة العباسية، مرورًا بعصور المماليك والعثمانيين. وما شهدته تلك الفترات من ممارسات وطقوس مبتدَعة ارتبطت بالمحمل، من بينها عروض الفرق الموسيقية التي كانت تعزف ألحانها في ساحات الحرمين الشريفين، واستغلال منابر الحرمين في الدعاء لخلفاء أو سلاطين لم يكن لهم ارتباط إيجابي فعلي في الغالب بالحرمين. لكن مرحلة الدولة السعودية الأولى، ثم مرحلة الملك عبدالعزيز رحمه الله بعد ذلك، جاءت لتغيّر المشهد جذريًا؛ إذ تواترت الأعمال السعودية في تأمين طرق الحج، وإيقاف عمليات قطع الطريق نهائيًا، واحتواء المشكلات والشغب الذي كان يصاحب المحمل المصري. وقد أدار الملك المؤسس عبدالعزيز هذه الملفات بحكمة وحزم وقيادة، وتلاشت الظواهر السلبية للمحمل، واستقل الحرمـان الشريفان تحت إشراف الدولة السعودية الثالثة بخدمتها للحرمين وتنظيمها لمناسك الحج وحماية الحجيج والتكفل التام بكسوة الكعبة المشرفة، على نحو قل نظيره في التاريخ. وهذا الحدث يمثّل لحظة استرجاع السيادة الرمزية من قوى خارجية، وإعادة تشكيل لبنية السلطة حول رمز مركزي موحَّد، واستئناف تعريف الانتماء للمقدسات ضمن إطار الدولة الوطنية. يكشف طاشكندي أن شرعية الحكام عبر القرون ارتبطت بعنصرين أساسيين: إرسال المحمل وكسوة الكعبة كل عام، وقراءة خطبة عرفة باسم السلطان أو الخليفة. وفي العصر المملوكي، تداخلت هذه الرمزية مع ممارسات ذات طابع هزلي أحيانًا، وكانت تُستخدم لتحقيق أهداف سياسية. وامتدّ تأثير ذلك إلى الحياة اليومية في مكة، حيث كانت توزَّع الصدقات والأموال؛ وهذا ولّد حالة من التواكل والكسل في أوساط الناس، مع تعزيز ولاء النخب العلمية والدينية للسلاطين وممثّليهم عبر الصُّرر والهِبات. وهنا يَبرُز أن هذه الممارسات كانت آليات لإعادة إنتاج التراتبية الاجتماعية، وأنها استُخدمَت كأداة نفوذ عابر للحدود، من أجل ترسيخ صورة المملوكي أو العثماني كراعٍ للمقدسات. لكن المؤلف يقف بنا عند لحظة القطيعة التاريخية التي أحدثها الملك عبدالعزيز مع مخلّفات الماضي السلبي، عندما ألغى طقس المحمل؛ وهذا القرار تمخّض عن ردود فعل سياسية من مصر، تمثلت في الامتناع عن إرسال الكسوة. وأتاح ذلك المجال للتحول السعودي إلى صناعة الكسوة في مكة، وهذا ما أثمر لاحقًا تأسيس مجمع الملك عبدالعزيز لكسوة الكعبة المشرفة، أحد أبرز المعالم الإسلامية في العصر الحديث. وبذلك انتهت مهزلة التوظيف الخارجي للمكان وشعائره المقدسة لأغراض سياسية، وبسطت الدولة السعودية سلطتها الوطنية الشرعية على رموزها الدينية، وأعادت صياغة علاقة المجتمع بالمقدسات على أساس السيادة الداخلية. إن كتاب «الركب: صراع الهوية والمكان» يربط بين التاريخ وصراع الرموز والسيادة، ويقدّم دراسة توضح كيف تُوظَّف الممارسات الاحتفالية والدينية في تثبيت السلطة، وكيف يمكن لتغيير طقس واحد أن يعيد رسم المشهد السياسي والديني لسنوات طويلة. وهو بهذا يعدّ نموذجًا لالتقاء البحث التاريخي الصارم بالقراءة الاجتماعية والسياسية المتبصرة، ويؤكد أن الهوية والمكان يتشكلان باستمرار في ظل تفاعلات القوة. *باحث ومحرر.