
منذ اللحظة الأولى التي عانقتُ فيها الدهشة بشعرِ حوراء الهميلي، كنت أتأمل ملمحًا لا تكاد تخلو منه قصيدةٌ من قصائدها، - صوت الأنثى الشاعرة – صوتها الذي يهمس بقضاياها بطريقةٍ أكثر ملامسة لحياتِها وحقيقتها وشعورها الفطري، ونحن نعلم بأنَّ الناسَ إنما يتفاعلون مع الأدبِ بالقدرِ الذي يلامس قضاياهم، ففي المفردةِ الشعريةِ عند حوراء لغة أنثوية لا يمكن أن تلتبس عندك بالشعر عند الرجل، فهي متحررةٌ تمامًا من أي التباس، فلن تقرأ قصيدةً إلا وجدتَ أثرًا للأنوثة حاضرًا يدل على أنَّ القصيدة أنثى، فهنا قرطٌ، وخلخالٌ، وخصرٌ وجيدٌ مضمخٌ، وهي تنقل الصورةَ الحقيقيةَ لحواء التي لطالما كانت مادة اللغة التي تتغذى عليها، فهل أثرى الشعرَ العربيَّ شيءٌ كما أثرته حواء بظلالها التي يتغزلُ بها الرجل؟! بل يستبسلُ من أجلِها فيزهق روحه ربما حفاظًا على صورتهِ في عيني حواء، وهنا أذكرُ مقولةً لهاني نقشبندي “في الشدائد والأزمات، يحتاج الرجلُ إلى امرأةٍ أكثر مما يحتاج إلى جيشٍ من الرجال” هذا الاقتباسُ العالقُ في ذاكرتي من روايةٍ قرأتها منذ سنوات، كنت كلما تذكرته لاحت لي صورةُ النبي صلى الله عليه وسلم وهو يهرع إلى خديجة. ثم تجددتْ هذه الصورة في شعر حوراء بتفصيلٍ غارقٍ في الفتنةِ والجمالِ في مقطوعاتٍ متفرقةٍ أوردتُها من قصيدتها “جرحٌ يغتسلُ عند النبع”: متلفِّتًا للحبِّ يرقبُ ظلَّه وكأنَّ شيئًا مِن خطاه أضاعَهُ! لمْ يدَّرِعْ للحزنِ غيرَ حبيبةٍ كانت لقاربِه الغريقِ شراعَهُ *** كوني عصايَ فمُ الشتاتُ مُسَرِّحٌ ذؤبانَهُ نحوي تؤُزُّ جياعَهُ كوني أنيسةَ وحشتي لي خاطرٌ لم يستطعْ أنسُ الورى إمتاعَهُ كوني المرايا في انعكاسِ حقيقتي إنْ بدَّلَ الوجهُ الوسيمُ قناعَهُ! هذه الصور والله أقربُ إلى الواقعِ وفتنته أكثر من صورةِ الصراعِ القائم، إنَّ الرجل في الأزمات إنما يحتاجُ لأنثى على رقتها وضعفها، يمده إيمانُها به بقوة لا تهزم، ويعيد من خلالها إيمانَه بذاته، ولسانُ حاله يردد بيتًا نبطيًا للراحل مساعد الرشيدي: “أحد ربي يحطك له حبيب وما يجيه غرور.؟ أنا ليه التفت للناس وعيونك جماهيري.؟” إنَّ صوتَ الأنثى الشاعرة شَابهُ كثيرٌ من الصراعِ الذي لا يخدمُ طبيعةَ الحياةِ الإنسانيةِ التكاملية، فكان صوتُ كثيرٍ من الشواعرِ إنما هو تطرفٌ يجابهُ تطرفَ المجتمع اتجاه المرأةِ في حقبٍ خلت ومضى زمانُها، لكن نسيَتْ أو تناستْ كثير من الشواعر أنهن بالانغماسِ في الحربِ التي لا طائلَ من ورائها، لم يكتبنَ صوتَ المرأةِ الحقيقيَّ وإنما كنَّ يكتبن شعرًا تجد فيه فئةٌ محدودةٌ من النساء رجعَ صدى لثورةٍ عاطفيةٍ اتجاه علاقةٍ فشلت، ورجلٍ خَذل، ومجتمعٍ تسلَّط، وكأنَّ المرأةَ قدرُها أن تبقى محصورةً في هذه القضيةِ منذ آلاف السنين، ترددُها قصائدٌ نسائية فيجد هذا الصوتُ تعاطفًا مؤقتا واجترارًا لتاريخ مضى، وتقتات به منظماتٌ دوليةٌ في محافلَ أخرى! إنَّ حوراء لا تنسى قضاياها ولكنها لا تجترها اجترارًا فجًّا، بل تقدم المرأةَ في صورةٍ شعريةٍ مبهرةٍ، تملؤك بالدهشةِ وتجعلك مرغمًا على الاعترافِ لها بالفضلِ دون أن تخوض معركةَ المجادلة، وتأمل معي هذا الصورة : صلادةُ الصخرِ كم تحتاجُ رِقَّتَها مَن غيرُها قسوةُ الدنيا ترقِّقُها ؟ يحتاجُها الشعرُ أنهارًا أنوثتُها تُندي القصيدةَ بالمعنى وتورقُها إنَّ سلطانَ البيانِ هذا يجعل المرأةَ تكسب معاركَها بسلاح الأنوثةِ، فهذه الرقةُ يحتاجها الصخرُ، يحتاجها الرجلُ، يحتاجها الشعرُ كذلك، هذا الضعفُ الذي يسلبُ الرجلَ القوةَ ويرغمه على الإذعانِ والاعترافِ، وهنا يلوح لي الحديثُ النبوي الذي أسيء فهمه كثيرا “ ما رأيتُ من ناقصات عقلٍ ودينٍ أغلب للبِ الرجلِ الحازمِ من إحداكن” فسلاح الأنوثة هذا ورقتها هذه، تغلب أدهى الرجالِ وأشدهم حنكة. ولوجُ الشواعرِ لساحةِ حربٍ ومجابهةٍ واجترارِ قضيةٍ تجاوزها الواقعُ كان له أثرٌ بطريقةٍ أو بأخرى على أنْ لا تحفل القصيدةُ النسائية بهمومِ المرأةِ اليومية في أغلب ما قرأت، وإنما كانت صورةُ الصراعِ أكثر وضوحًا، فمن لحواء التي تحب؟ ومن لحواء الأم التي تئن؟! ومن لامرأةٍ في جنحِ الظلام تكتظ وسادتُها بالأسئلة؟! – على حدِّ تعبير حوراء - ومن لأخرى تهدرُ ساعاتِ انتظارٍ لا متناهية، وتبذل من صحتها وجسدها دون أي حساب لتأكد أنوثتها بالإنجاب؟! من لصوت امرأةٍ ابتلعت آلافَ العقاقير، ومرَّختْها عشراتُ الأيادي إن لم تكن لها حواء الشاعرة صوتا.؟! قبل أيام كنتُ في مسامرةٍ أدبيةٍ مع الأديبِ الأريب “معاذ سليم” وذكر: “أنَّ التاريخ لا يحفل بالحياة اليومية، ولا يؤرخ إلا للأحداث الكبيرة والتي في جوهرها لا تؤثر في حياة الناس وذكر مثالاً على أن فلسطين قد يكُتب تاريخها بشكل مطولٍ مفصل، لكنَّ التاريخ لن يَكتب خوفَ الإنسانِ الفلسطيني من رنة الهاتفِ وإنما يكتبه الشعراء، وأن الأدبَ هو الذي يحفل بهذه الحياة اليومية البسيطة ويدونها” تذكرتُ هذا وأنا أقرأ ديوانَ الشاعرة حوراء الهميلي الأخير “وصحوتُ…للأحلامِ رائحة” هذا الديوان الذي اختارتْ له الشاعرة أن لا يظهر في حلةٍ قشيبةٍ فكان إعلانُ صدوره في حد ذاته تحفةً فنيةَ يتكامل فيها الأدب مع الصوتِ والصورةِ في مشاهدَ سينمائيةٍ بديعةٍ، فكتبتُ حينها أنَّ حوراء هي المقابل الموضوعي للدهشة، فكثيرًا ما تصنع من السهلِ الممتنعِ صورًا مدهشة، تلتقطها من زوايا قريبةٍ جدًّا وخفيةٍ كذلك، وبعد قراءةِ الديوان تأكدتُ أن هذا صحيح تمامًا، فقد جاء الديوان صوتًا للمرأة، يحفلُ بتفاصيلها الصغيرة، وهمومها اليومية، وقضاياها التي لا يمكن أن تكتبها إلا شاعرةٌ، تتأملُ الزوايا التي لم تطرق في حياةِ حواء، وإنْ كنت أنسى، فلن أنسى ملامحَ سيدةٍ كانت تجلسُ في الصفِّ الأولِ وحوراء تلقي إحدى قصائد هذا الديوان ووجهها يكادُ يكونُ قطرةَ دمعٍ كلما تعمقتْ الشاعرةُ في فكرةٍ أخرى وعبَّرتْ عن وجعٍ أنثوي آخر، حينها كنت أعلم حقًا أنها تجسُّ الجرحَ جسَّ الخبيرة، وتداوي وجعَ المرأة برفقِ الأنوثة، فكانت بكلماتها تعالجُ صدأَ الكلامِ وهي التي تقول في القصيدة الثانية من هذا الديوان - “سُلَّمٌ موسيقيٌّ في حنجرة صامتة”:“ لأنَّ الكلامَ الذي لا يُقالُ له قدرةٌ أنْ يُمزِّقَ أوتارَ حنجرتي ثُمَّ ينسلَّ تحتَ الضلوعِ لِيثقبَ قلبي! لأنَّ الكلامَ الذي لا يقالُ سيصدأُ في الروحِ حتى لَيصدر منه صريرٌ غريبٌ!” فكان صوتها الشعري لسانَ كل حواء صدأ في قلبها الوجعُ، ولم تستطع أن تزفرَه شعرًا. وتقول في ذاتِ القصيدة آنفة الذكر في مقطع آخر: “لأن هنالك سيدةً نسيت طعمَ أغنيةِ الحبِّ في موعدٍ أولٍ قبل خمسين عامًا... أجيءُ محمِّلةً صوتيَ المخملي الغناءَ المُراكم في صدرها” هذا المقطع من القصيدة هو الإشارةُ الثالثة بعد الإعلان السينمائيِ لصدور العمل، وبعد العنوان الذي جاء رامزًا إلى أنَّ الحلم الذي راودَ المرأة بأن يكون لها صوتًا يمثلها قد تحقق، كل تلك الإشارات تؤكد أنَّ حوراء هنا ستكون صوت حواء، وكانت كذلك بعد تتبعي الديوان، فقد حفلتْ بقضايا المرأة التي تحتاج أن تُلامس برفقٍ هذه اللغة، حفلتْ بمعاناةِ المرأة اليومية، وآلامها التي تحتاج لصوتٍ شعريٍّ أنثويٍّ ؛ يحمي الحناجر من أن تتثقب ناياتُ حزن، ويجفف برك الدمع، ويجعل من القصيدة ضمادًا للجراح. في القصيدةِ الثالثة من هذا الديوان، كانت الشاعرة تتحسسُ وجعَ امرأةٍ منسيةٍ في هذا العالم، تئنُّ ولا يصغي لها أحدٌ، تتلقى الإجلالَ الذي لا تريده، والحظوةَ التي لا تهمها، - الراهبة – هذه المرأة التي تقول بلسانها حوراء: “جِلْبَابِيَ أَزْرَقُ هفْهَافٌ جَسَدِي كَالْمَرْمَرِ مَصْقُولٌ عَذْرَاءٌ كُلُّ جِنَايَتِهَا نُذِرَتْ فِي هَوْدَجِ رَاهِبَةِ نَذَرَتْنِي أُمِّيَ كَالْعَذرَاءِ وَلَمْ تَعْبَأْ بشعوري لِي رَغَبَاتِي الفِطْرِيَّةُ: أَحْلُمُ أَنْ أُرْضِعَ أَطْفَالِي وَأُرَبِّيَهمْ، أَنْ أَلْبَسَ فُسْتَانًا يَكْشِفُ نَحْرِي وَذِرَاعي مَمَلُوءًا بِالوَرْدِ وَمُنْتَشِيًا بِالعطرِ كَأَيِّ فَتَاةٍ تَتَزَوَّجُ شَخْصًا يَعْشَقُهَا مِنْ نَظْرَتِهِ الأُولَى” وفي القصيدة السادسة من هذا الديوان –” وسادة مكتظة بالأسئلة “ - تفجر حوراء سيلاً من الأسئلة التي تلامس عمق حواء الإنسانة و تأمل معي: “لا أعلمُ كيف ينامُ الليلُ وفي المستشفى امرأةٌ تتقطع منها الأحشاء لتلفظ طفلاً متوفى؟!” فهذا الألمُ المركبُ من عدة أوجاع، صورة منسية في الحياة اليومية، لا يمكن أن يلامسها شيء كما تلامسها حوراء الشاعرة. وفي صورة شعرية أخرى من أسئلةِ الوجع تقول: “لَا أَعْلَمُ كَيْفَ يَنَامُ اللَّيْلُ وَطِفْلٌ فِي الحَرْبِ تَخَيَّل أَنَّ قَنَابِلَهُمْ أَلْعَابُ النَّارِ لِعِيدِ المِيلَادِ الفَائِتِ مُبْتَهِجًا يَتَأَمَّلُهَا مِنْ نَافِذَةِ المطبَخِ يَبْدَأُ فِي العَدِّ عَلَى كَفَّيْهِ لِأَنَّ الطِّفْلَ سَرِيعُ النِّسْيَانِ يُعِيدُ كَثِيرًا فِي إِصْبَعِهِ الخَامِسِ تَحْدِيدًا طِفْلُ الحَرْبِ سَيَلْقَى الحَتْفَا!” في الوقت الذي يَعدُّ فيه الرجالُ عددَ الصواريخ التي هوت على مدينةٍ ما، وحجمَ الخراب الذي حلَّ بها، أو تحليل الحرب وخططها، أجزمُ أنَّ صورةَ الطفل هذه حاضرةٌ في خيالِ كل أمٍّ وهي تطعمُ صغارَها، وكأنَّ كل طفل طفلُها، وكلَّ وجعِ الأطفالِ تراقبه خشيةَ أنْ يصيب أطفالها، وإن جازَ لها أن تعوذهم شعرًا لرددتْ كلُّ نساء العالم، قول بدوي الجبل: “و يارب من أجل الطفولة وحدها أفض بركات السلم شرقًا ومغربا” أما القصيدة السابعة في هذا الديوان عنوانه وحده يحتاج إلى كثيرٍ من التأملِ والتعليق، فهو يختزلُ قصة الوجع الأكثر ألمًا لحواء، والمشتركَ الإنساني الأكبر، يختزل نظراتِ الشفقة التي تفر منها كلُّ امرأة، وهمهمات الجارات، والضجيج الذي يملأ فراغَ الصمت الذي تفر منه كل الأمهات “أرحامٌ في ردهة الانتظار” “ وتجلس في ردهة الانتظار نساءٌ يدربن أرحامهُّن على الحلمِ، أثداءَهن على ثغرِ طفلٍ ظميٍّ، نساءٌ سيبحثنَ عن أملٍ زائفٍ لم يعد صالحًا للبقاء ولكنه صالحٌ كي يخدرن أوجاعَهن بقرصين منه” إنَّ هذه القضيةَ من هموم المرأة المنسية، والتي لطالما جلست على ردهة الانتظار، كتلك الأرحام، منتظرةً أن تُكتب، أن تزفرَ حواء أخرى من بعيد بقصيدةٍ تشبه وجعها، تلامسُ همَّها اليومي، تحس بها، تقول عنها ما لم تقله، تصور فخَّ الأملِ الكاذب، الذي يسوقه طبيبٌ أو عيادةٌ دون شعورٍ بالذنب، وتتلقفه أنثى كقشةٍ أخيرةٍ دون أدنى شعورٍ بالخديعة. ثم في ذات القصيدة تطرق مقابلاً منسيًا في هموم الحياة اليومية: “ تفكر في حملها كلَّ يومٍ يفكر في دَينه كل يوم” إن هذه الصورة أكثرُ مقابلٍ متنافرٍ يعيشه كلُّ شريكين، هذا البون الشاسع بين همَّين كخطينِ متوازيين، لا يمكن أن تجمعهما غاية واحدة، تحقيق أحدهما يعني غرق الآخر في همه أكثر فأكثر. إن ما تقدم لم يكن إلا محاولةً يسيرةً للإشارة لما لا تحيط به العبارة، من همومِ المرأة التي حفل بها هذا الديوان، وزوايا اليوميِّ العادي من همومِ حواء التي تغرق بها والتي لا مستها حوراء الهميلي، برفق يمكن أن يكون نفثةَ صدورٍ حرَّى، ودهشةً جديدة في الشعر تثبت أن الشعر وحده يمكنه أن يُحَولَّ ما هو عادي إلى سحرٍ مدهش، ويمكنه أن يلبس العبارة ثوبًا من الفتنة، ويجعل للمهمل قيمةً عندما يصبح شعرا. وهو شاهد جديد على تجربة حوراء الهميلي، التي يمكنها أن تكتب القصيدة بجميعِ أشكالها فتخرجها في ثوب زاهٍ، فهذا الديوان الذي جاء في نسقٍ واحدٍ – قصائد تفعيلة – كان شاهدًا جديدًا على صدقِ حوراء حين قالت: أُحبُّ من الأشعارِ فكرة أنها حرونٌ ولكنْ بين كفي انقيادُها.”