في رواية «سامح الفؤاد» لإبراهيم عبد المجيد ..

حين يصبح الحنين جسد الرواية!

في روايته الجديدة «سامح الفؤاد»، الصادرة حديثاً عن دار جداول، يختار الروائي المصري الكبير إبراهيم عبدالمجيد أن يكتب عن الحب لا بوصفه حكاية عاطفية تقليدية، بل كرحلة طويلة المدى بين واقع ملموس وخيال متسع، بين أماكن نابضة بالتاريخ وأزمنة تتداخل حتى يصعب فصلها. تبدأ القصة من لقاء عابر عام 1980 في مبنى الإذاعة، حين يرى سامح الفؤاد ــ كاتب القصة القصيرة ــ موظفة شابة تدعى ماجدة، فتترك في قلبه أثراً لا يُمحى. تمرّ الأعوام، وتختفي الحبيبة عن المشهد، ثم تعود في ملامح الصدفة، في شارع طلعت حرب، أو في أحلام البحر، أو بين موسيقى بيتهوفن وتشايكوفسكي. بعد عشرين عاماً، يتقاطعان من جديد في أروقة قطاع الإنتاج بالتلفزيون، فتبدأ رحلة جديدة من البحث، يتشابك فيها الحاضر بالماضي، وتصبح القاهرة، والميريلاند، والإسكندرية، والبحار، مسارح للقاءات واقعية وأخرى متخيلة. البنية السردية وتعدد الأزمنة الرواية تتحرك بين ثلاثة مستويات زمنية: ــ زمن البداية: لحظة اللقاء الأول في الإذاعة (1980). ــ زمن الوسط: إعادة الظهور في التسعينيات، واللقاءات المتفرقة. ــ زمن الكتابة: العام 2010، حيث يسرد البطل الحكاية من موقع التأمل والحنين. لا تُقدَّم هذه المستويات خطياً، بل تتشابك عبر الاستدعاءات والمشاهد الحلمية، لتشكّل ما يشبه الزمن الدائري، حيث يعود السرد دوماً إلى نقطة البداية، لكنه يعود محمّلاً بمشاعر وخبرات جديدة. يدخل عبدالمجيد في النسيج الروائي عناصر فانتازية: البحار، السفن، السيرينيات، العملاق، السماء التي تعزف فيها ماجدة «السيمفونية السابعة» لبيتهوفن.. هذه الصور لا تأتي كأحلام منفصلة، بل كامتداد طبيعي لحالة البطل النفسية، حتى يصعب الجزم إن كانت أحداثاً واقعية أو إسقاطات شعورية. الرموز والدلالات • البحر: فضاء التيه والاختبار، يستدعي رحلة الأوديسا. • الموسيقى الكلاسيكية: لغة ثانية للحب، تعكس النبض الداخلي للشخصيات. • العملاق: قدرٌ غامض يوجّه البطل نحو حلمه أو يبعده عنه. • الأماكن: الميريلاند، الإسكندرية، مصر الجديدة... تتحول من مواقع جغرافية إلى شخوص تحمل ذاكرة البطل وحنينه. ولهذه الرواية صلة ببعض أعماله السابقة، فمثلاً في رواية «لا أحد ينام في الإسكندرية»، كان المكان مسرحًا لتحولات جيل بأكمله. وفي رواية «الإسكندرية في غيمة»، كان الحنين مشوبًا بالخسارة العامة. أما «سامح الفؤاد»، فالحنين شخصي وعاطفي، لكنه يحتفظ بالوعي نفسه بأن الزمن لا يعود، وأن الجمال حين يأتي متأخراً يحمل في طياته نكهة الفقد. لا تنغلق الرواية على حكاية عاطفية تقليدية، فهي في جوهرها تأمل في الزمن، وفي فرص الحياة التي تأتي متأخرة لكنها قادرة على إشعال الروح. ومع أن القصة تنبض برومانسية عالية، فإنها مشبعة أيضاً بوعي الفقد، وبالإحساس العميق بأن كل لقاء هو مؤجل على نحو (ما)، وأن الحب، حين يأتي، يجيء محمّلًا بكل ما أضعناه قبله. يمزج عبدالمجيد بين النثر الروائي والحساسية الشعرية، في لغة تتراوح بين التدفق الوصفي الطويل والإيقاع الحواري القصير المكثف. الحوار بسيط لكنه كاشف، والوصف مشبع بالصور الحسية والموسيقية. الحب كفعل مقاومة الحب في هذه الرواية ليس انغماساً في عاطفة، بل موقف وجودي من العالم. هو مقاومة ضد الابتذال، ضد فقدان الإيمان بأن للحياة معنى شخصي قادر على أن يضيء حتى في الخمسين من العمر. إن رواية «سامح الفؤاد» ليست مجرد قصة عن رجل يبحث عن امرأة، بل عن إنسان يطارد لحظة جمال نادرة، حتى لو كانت مؤجلة لعقود. هي رواية عن الحنين حين يتحوّل إلى معمار سردي، وعن الخيال حين يصبح وسيلة لاستبقاء ما لا يستبقى. ومعها يبرهن إبراهيم عبدالمجيد أن الرواية الرومانسية، حين تُكتب بصدق وعمق، قادرة على أن تمنح القارئ نافذة على عالم أرحب من الواقع، وأدفأ من الذاكرة.