
في الثلاثين من حزيران عام 2003، طوى الموت صفحة فنان وناقد استثنائي، هو «جميل حمودي». كان حمودي أحد الفاعلين المتميزين في حركتنا الثقافية والفنية، ولعب دورا رياديا في «تأسيس روحية خاصة للوحة العراقية المعاصرة المتجددة». كما كان من المؤسسين لـ «جماعة البعد الواحد»، إلى جانب نخبة من الفنانين الرواد مثل شاكر حسن آل سعيد ومديحة عمر. اكتشف حمودي مبكرا الإمكانيات الكامنة في استلهام «الحرف العربي» لبناء اللوحة الفنية، ليصبح بذلك أحد رواد الحروفيين العرب. لقد زاوج ببراعة بين مفردات اللوحة الزيتية وجمالية الحرف العربي وقدرته على التشكيل، ليخلق أعمالًا فنية فريدة تعكس هذا الاندماج. على الرغم من قضائه أكثر من عقدين من الزمن في فرنسا، إلا أنه كان بحق “سفيرا للوحة الفنية العراقية” هناك. حملت أعماله سمات وخصوصية تراثنا وفلكلورنا الشعبي الأصيل، لتكون جسرا ثقافيا يربط بين الشرق والغرب. مسيرة حمودي في باريس: فن، أدب، ونشر في باريس، تابع الفنان الراحل دراساته وبحوثه الفنية والأدبية. نشر عدة قصائد في المطبوعات الفرنسية، وأصدر ديواني شعر باللغة الفرنسية هما: “أحلام من الشرق” (1955) و”آفاق” (1957). كذلك أسس دارا للنشر، أصدر عنها مجلته “عشتار” بالفرنسية، وكانت تهتم بالثقافة والحضارات والفنون. في عام 1949، شارك في “صالون الحقائق الجديدة” الخاص بالفن التجريدي، إلى جانب فنانين مرموقين مثل هيرمان، وهارتونك، وشوفير، في متحف الفن الحديث بباريس. وفي عام 1959، أقام أول معرض شخصي له في باريس، وقد كتب الناقد جاك لاسين مقدمة دليل المعرض. كما شارك في المؤتمر الثاني عن “الحضارات المتوارثة” الذي أقيم عام 1951 في السوربون، بمناسبة مرور ألف سنة على تأسيس مدينة باريس، وكانت مشاركته باسم مدينة بغداد. مسيرة فنية عميقة وشغف بالخط العربي يتحدث الفنان حمودي عن بداية مسيرته الطويلة وتجربته الفنية المعمقة للصحافة قائلا: “لقد افتتنت بالخط العربي منذ طفولتي، وكنت خطاطًا وأنا أعتز بذلك لأسباب قدسية ذات طابع روحي وديني... وبعدما بلغت مستوى معينا في تجربتي الفنية، أدخلت الحرف العربي إلى لوحاتي، لا لإضافة قيمة جمالية إليها فحسب، بل لتضمينها معاني مختلفة تسهم في بنائها أيضا... الحرف العربي إذن كان يعيش معي منذ الطفولة، وقد توضحت بعدئذ الأدوار التي يمكن أن يلعبها في التكوين التشكيلي.. رسما وتكوينا ونحتا وعمارة.” استفاد حمودي من مرحلة “الكتاتيب” حيث تعلم الخط بالقلم المقطوع من القصب وبالحبر الأسود، وكان يحاول تكوين أشكال غريبة أو هندسية أو معمارية، مثل أشكال المساجد والمنائر. في الصف الثالث الابتدائي، تحول من الإبداع العشوائي إلى نقل اللوحات الملونة، وفي عام 1936، نقل بنجاح صورة الشاعر الإنجليزي “شيلي للرسام كينزبورد”. تعلم في طفولته أيضا الحياكة والتجليد والنقش على القماش “الباتيك التقليدي” والنجارة، وقد كانت هذه المهارات جوهرية، حيث أعطته الفرصة لممارسة فن النحت على الخشب. تعلق حمودي بالكتابة والأدب، ودفع هذا التعلق إلى تحرير مجلة باسم “عشتروت” كان يكتبها بخط يده، وساهم فيها جواد سليم وعطا صبري وغيرهم. في بغداد، كانت لديه هوايات مسرحية عابرة، فأخرج مسرحية “مجنون ليلى”. كما أخرج مسرحية يابانية بعنوان “هاكورومو – ثوب الريش” على مسرح حدائق مدرسة الفنون الزخرفية في باريس عام 1960. مراحل توظيف الحرف العربي في رسومات حمودي مرت التجربة الجمالية لتوظيف الحرف العربي في رسوم حمودي بعدة مراحل بحثية متواصلة: يتضح المفهوم الجمالي للحرف العربي في لوحات الفنان جميل حمودي، وخصائص أسلوبه، التي لها مرجعياتها الفكرية والدينية والتاريخية والميثولوجية في العلاقات السائدة بين العناصر التصويرية وتطبيقاتها في التقنية لتكشف الجماليات الموظفة لصورة الحرف العربي، في الشكل الخارجي واللون والفضاء والملمس والحجم والسيادة والاتجاه والتكرار.