توماس بارغر ..

جيولوجي أرامكو الذي وثّق البدايات.

في خمسينيات القرن الماضي، وبينما كانت المملكة على أعتاب نهضة لم يكتب لها بعد اسم النفط، توجّه توماس بارغر ـ الجيولوجي الأمريكي الذي أصبح لاحقًا رئيسًا تنفيذياً لـ “أرامكو” ـ إلى الصحراء ليستكشف الأرض ويُعرّفها للعالم الغربي، لكنه اختار أن يفعل ذلك بطريقة غير مألوفة؛ بالكاميرا. لم تكن مهمته تقتصر على رسم خرائط النفط أو تحديد مواقع الحفر، بل شملت توثيق وجوه الحياة اليومية؛ من رحلات الحقول في الهفوف والظهران، إلى مدارس أرامكو والمجالس البدويّة، مرورًا بأول بيوت الأجانب والمباني الطينية التي كانت تشكل العمارة المحلية قبل التحوّل العمراني. بذكاء انساني قلّ نظيره، جمع بارغر بين تخصصه العلمي وحسّ بصري مدهش، فكانت صوره ـ التي باتت محفوظة اليوم في أرشيفه بجامعة جورجتاون وضمن مطبوعات Aramco World ـ كشاهد حيّ على اتباعية التحوّل المجتمعي، وعلى ولادة مرحلة جديدة في مسيرة المملكة نحو الحداثة. من أمريكا إلى الظهران وُلِدَ توماس بارغر في الولايات المتحدة عام 1909م، ونشأ في بيئة مشبعة بقيم الانضباط العلمي والفضول الطبيعي. درس الجيولوجيا في جامعة مينيسوتا، وتخرّج منها بشهادة في العلوم الجيولوجية، مما أهّله للعمل في ميدان يدمج بين الاستكشاف والمغامرة. في ثلاثينيات القرن العشرين، كانت شركات النفط الأمريكية تتسابق نحو الشرق الأوسط، بعد أن بدأت الشواهد الجيولوجية تشير إلى وجود احتياطات ضخمة في شبه الجزيرة العربية. وفي عام 1937م، انضم بارغر إلى فريق شركة كاليفورنيا أرابيان ستاندرد أويل كومباني (CASOC)، وهي الشركة التي تمثّل الذراع الاستكشافية لشركة “Standard Oil” في السعودية. لم يكن الوصول إلى المملكة أمرًا هيّنًا؛ فالمناخ الصحراوي، والبنية التحتية المحدودة، والحياة القبلية القائمة، شكّلت تحديات حقيقية لكل وافد غربي. ومع ذلك، وصل بارغر إلى منطقة الظهران بوصفه جيولوجيًا ميدانيًا ضمن أول بعثة استكشافية حقيقية تم إرسالها لترسيم التكوينات الأرضية، وتحديد إمكانية وجود النفط في باطنها. منذ أيامه الأولى، لم يكن بارغر مجرد تقني يؤدي عملًا جافًا؛ بل أظهر انفتاحًا نادرًا على المجتمع المحلي، وحرص على تعلم اللغة العربية، وفهم عادات القبائل، والتقرب من السعوديين العاملين في المشروع. كان يرى أن معرفة الأرض تبدأ من فهم أهلها، وهو ما جعله يحظى بثقة متنامية لدى زملائه والمجتمع المحيط به على السواء. هذه السنوات التأسيسية التي قضاها بين الدمام والظهران والهفوف، مهّدت لاحقًا لتحوله من موظف ميداني إلى أحد أعمدة أرامكو وصنّاع جسور التواصل بين الثقافة الغربية والمجتمع السعودي. وقد تركت هذه البدايات أثرًا واضحًا على الطريقة التي اختار بها لاحقًا أن يوثّق الحياة في المملكة: ليس من علٍ، بل من قلب الميدان، وبين الناس. عدسة الحياة اليومية منذ وصوله إلى المملكة، نظر توماس بارغر إلى محيطه بعين الراصد الذي يرى في التفاصيل اليومية ما يستحق التوثيق والبقاء. حمل كاميرته كما يحمل الجيولوجي أدواته، لكنه وجّهها لا نحو الصخور وحدها، بل نحو الناس الذين يعيشون فوقها. وهكذا، بدأ يشكّل أرشيفًا بصريًا نادرًا للحياة السعودية في زمن كانت فيه الكاميرا ضيفًا غير مألوف. ولم تكن صوره مجرّد مشاهد عابرة، بل أقرب إلى شهادات على مرحلة انتقال. نرى من خلالها ملامح مجتمع في طور التشكّل، بين تقاليده الراسخة ومظاهر التحديث التي بدأت تزحف بهدوء. التقط بارغر تفاصيل الأسواق الريفية، والصناعات الحرفية، ومشاهد الأطفال وهم يتعلّمون تحت ظلال الجدران الطينية، في صورة صادقة لا تختزل المكان في رموزه، بل تحتفي بعاديته. اللافت في صور بارغر هو حضوره الإنساني الهادئ خلف العدسة. لم يكن متفرجًا من بعيد، بل بدا وكأنه جزء من المشهد، يحظى بثقة مَن يصوّرهم. وربما كانت هذه الثقة هي ما أتاح له أن يرصد لحظات عفوية ونادرة، وكانت عدسة بارغر تُنصت أكثر مما تتكلم. وفي ذلك، قدّم للمؤرّخين والمشاهدين بعد عقود مادة خامًا لفهم تحوّل المملكة لا عبر مشاريعها الكبرى فقط، بل عبر وجوه أهلها، وضوء الصباح على جباههم، والغبار العالق في زوايا الصورة. بناء العلاقة الثقافية منذ الأيام الأولى له في السعودية، سعى بارغر إلى فهم الآخر، حيث سعى جديًّا لتعلّم اللغة العربية، معتمدًا في البداية على مترجمين بدو، ثم على احتكاكه المباشر بالعاملين السعوديين، وأبناء القبائل في الصحراء الشرقية. لم تكن خطوته هذه شائعة في أوساط الموظفين الأجانب آنذاك، لكنها كانت مفتاحًا ذهبيًا لفهمه العميق للمجتمع، وبابًا لدور جديد سيتجاوز ما هو فنيّ. خلال مسيرته، تحوّل بارغر تدريجيًا إلى همزة وصل ثقافية وسياسية بين إدارة الشركة والحكومة السعودية، واستُعين به في كثير من القضايا الحساسة التي تطلبت وعيًا بالعادات المحلية وسياقاتها الاجتماعية. وبلغ هذا الدور ذروته حين أسّس عام 1949م مجلة “Aramco World”، لتكون منصة معرفية تُخاطب العالم الغربي من داخل المشهد السعودي، فتعيد تقديم المملكة كحضارة تمتلك عمقًا تاريخيًا وثقافيًا فريدًا. في عام 1958م، عُيّن مديرًا للعلاقات الحكومية، ثم صعد إلى أعلى الهرم التنفيذي في الشركة عام 1961م عندما أصبح الرئيس التنفيذي لأرامكو، وهو المنصب الذي شغله حتى تقاعده في 1969م، وخلال هذه الفترة عزّز من حضور السعوديين في الهيكل الإداري، وشجّع على تطوير برامج التدريب والتعليم، كما دعم جهود التوطين المبكّرة داخل الشركة. وقد وُصف من قبل زملائه السعوديين بأنه رجل استثنائي في إنسانيته، وواقعي في رؤيته، ومخلص في التزامه ببناء جسور الفهم بين الثقافتين. وقد نُظر إلى بارغر بعد تقاعده لا كأحد التنفيذيين الذين عبروا الصحراء، بل كأحد صانعي العلاقة المبكّرة بين الولايات المتحدة والمملكة، وترك أثرًا مؤسساتيًا وفكريًا امتد حتى بعد غيابه. لا تزال المجلة التي أسسها تصدر حتى اليوم، ولا تزال صوره تُعرض في معارض توثيقية، باعتبارها لحظة صدق نادرة من عدسة رجل اختار أن يُصغي قبل أن يتكلم. رسائل من قلب الصحراء في خضم التحولات الكبرى التي شهدتها المملكة خلال العقود الأولى من نشأتها، كتب توماس بارغر سلسلة من الرسائل الخاصة لزوجته “كاثلين”، أرسلها من الدمام والظهران والهفوف بين عامي 1937م و1940م، هذه الرسائل التي نُشرت لاحقًا في كتاب بعنوان “Out in the Blue: Letters from Arabia”، تُعدّ وثيقة شخصية نادرة عن بدايات أرامكو، وحياة الميدان، واللقاءات الأولى مع المجتمع السعودي. جاءت الرسائل بأسلوب بسيط وصادق، لكنها تنطوي على عمق ملاحظي حاد، يلتقط تفاصيل الناس والأماكن والعادات، كما يروي صعوبات التكيّف مع المناخ الصحراوي، وتحديات التنقل، وتنوع العلاقات التي بدأ ينسجها مع السعوديين. الصور التي تضمنها الكتاب ـ وعددها 74 صورة أصلية ـ تعكس الحس البصري الذي لازم بارغر طوال مسيرته، وتمنح القارئ نافذة نادرة إلى واقع المملكة آنذاك. إرث بصري عظيم لم يكن توثيق توماس بارغر مجرد هواية عابرة، بل كان فعلًا واعيًا للتأريخ من قلب اللحظة. عدسته لم تكن تسعى فقط إلى التقاط صورة جيدة، بل إلى تسجيل تحوّل مجتمعي عميق يحدث أمام عينيه. ولهذا السبب، جاءت صوره أشبه بيوميات مصورة لبلد كان يتغيّر بهدوء وبخطى واثقة، من الصحراء والبداوة إلى التخطيط الصناعي والبنية الحديثة. الأرشيف الذي خلّفه بارغر ـ والمحفوظ اليوم في مكتبة جامعة جورجتاون ضمن المجموعة الخاصة GTM‑161201 ـ يشمل مئات الصور الفوتوغرافية، وشرائط فيديو، ومخطوطات ميدانية، ومراسلات شخصية مع أسرته وزملائه بين عامي 1937م و1966م، هذه المواد ليست وثائق جامدة، بل سرد بصري وإنساني لمجتمع يتحرّك نحو المستقبل، فيما لا تزال أقدامه مغموسة في رمال تقاليده. لقد وثّق بارغر التحوّل السعودي كما لم يوثّقه أحد في زمانه: من الهجرات القبلية إلى التوسّع العمراني، ومن المجتمعات المتناثرة إلى النواة الوطنية المتماسكة. وما تركه خلفه لا يمكن تلخيصه في ألبوم أو معرض، بل هو سجل بصري شاهق، يحمل ذاكرة أمة في مرحلة التكوين. رحل بارغر في في 30 يونيو 1986م، رحل ولكن عينه ما زالت تُبصر من خلال كل صورةٍ التقطها. وما وثّقه لا يُعدّ سجلًا لحظة عابرة، بل خارطة بصرية لطريق طويل قطعه المجتمع السعودي نحو التحديث، دون أن يفقد هويته. وفي أرشيفه، لا نرى فقط التاريخ، بل نرى كيف كان يُبنى المستقبل بهدوءٍ، صورةً بعد صورة. ــــــــــــــ * هوامش: 1- تمت ترجمة كتاب توماس بارغر (Out in the Blue: Letters from Arabia 1937-1940) إلى العربية تحت عنوان (تحت القبة الزرقاء، رسائل من العربية السعودية “بلاد العرب” 1940 – 1938)، عن دار برزان في بيروت عام 2004، عن ترجمة ريمون باليكي. 2- حقوق نشر الصور المرفقة بالتقرير تعود إلى شركة أرامكو، ومجلة عالم أرامكو (Aramco World) التي تصدر كل شهرين من قِبل شركة أرامكو السعودية للخدمات، وموقع الموسوعة الحرة (ويكيبيديا).