عظَمةُ السِّينما السُّعودية.

تنطلقُ السينما السعودية بسُرعة للحاق بما فاتها من زمن، إذ لا تستطيعُ التوقف وانتظار ما يأتي من السينمات الأُخرى، ومعَ صعودها السريع تنظر في اتجاه تحقيقِ ذاتها وإثبات وجودها على المستويين العَربي والعالمي، وهوَ ما يعني مزيداً من الاشتغال على تحسينِ المخرجات وتجويد المعطيات، وهذا ما يتَّضح في اختيارِ الممثلين، وإعدادهم بشكل جيِّد، وإدراجهم ضمن أدوار تتناسب مع شخصيَّاتهم وإمكاناتهم، وهيَ الأمور التي برع فيها معدُّو الأفلام والمسلسلات، وتبيَّن أن الكثير من المواهبِ ظلَّت غائبة بسبب عدم القدرةِ على استثمارها، فلما حانَ الوقت وأُتيحت الفرصة انبعثت أمامَ المشاهد بكل قوَّة. الممثِّل ليس إلا عنصراً واحداً من عناصرِ المشهد السينمائي، ربما يكونُ الأبرز والأكثر تأثيراً بسببِ ما يمتلك من حضور وقدرة على جذبِ المشاهدين، لكن أيضاً لا يمكنُ نسيان الإعداد الجيِّد للمَشاهِد ومَلئِها بما تحتاج إليه من ديكُورات تتناسب مع الأجواءِ الزمانية والمكانية التي تجرِي فيها الأحداث، وارتباط ذلك بالملابسِ والزينة والطعام، وعلاقة البيئةِ المحيطة بالألفاظ الدائرةِ في تلك البيئة وذلك العصر، إذ ثمَّة متغيرات كثيرة ينبغي أخذها في الحُسبان، فحينما يفوتُ تفصيل صغير ستنتج مشكلة كَبيرة؛ لأن ما يُرى ضئيلاً في عالم السِّينما يتم تكبيره عشراتِ المرات، من قبل المشاهدين الذين يُراقِبون أدقَّ التفاصيل. الكلماتُ تفعل دوراً هائلاً في استمالة المشاهد، لكنها لا تكفي لإقناعه بصدق ما يرى، إذ يلزم أن تقترنُ الأفعال بالأقوال، وأن تأتي السلوكيات متوافقة مع الحالة النفسية والذهنية للممثل، بحسبِ الدور الذي يؤديه، فإذا استلزم الدور إقناع المشاهد بالحزن على موت أحد أفراد العائلة يجبُ أن يندرج في السلوكيات والكلمات ما يُظهِر التأثُّر الكبير، وبالعكس إذا استلزم الدور إقناعَ المشاهد بالفرح لزواج أحد الأبناء يجب أن يندرج ما يُثير في النفس البهجةَ والمسرة، وهنا تتحوَّل السينما إلى قطعة من الحياة، حيثُ تؤخذ تفاصيل الواقع ويتم إسقاطُها على المشهد؛ ليأتي مُحكَماً مُقنِعاً. عمليةُ الفصل بين مشهد وآخر لا تأتي عشوائية أو اعتباطية، فأهميَّتها تكمن في جذب المشاهدين وزيادةِ إقبالهم على المتابعة، لذا ينبغي اختيار التوقيت الجيِّد لبداية المشهد ونهايته، وارتباطِه بما قبله وبعده من مشاهد تضمن تسلسلاً منطقيًّا لا يخلُّ بالدلالة العامة التي يقدمها العملُ الفني، كما يعمل على إثراء المشاهد ورفده بتفاصيل جديدة كلِّ مرة، وهنا يمكن توجيه الكاميرا على الشخصيَّات المشتركة في بناء حدث من الأحداث، ورؤيةِ وجهات نظرها وعلاقتها بما يحصلُ ومدى قبولها أو رفضها، وهل تمتلك مشاعر سلبيَّة أم إيجابيَّة تجاه الشخصيات الأخرى؟ وما إمكانيَّة الوصول إلى حلول مع استمرارها في اتِّخاذ هذا الشعور والسلوك؟ وكيف يمكنُ إجراء تعديلات مقبولة ومقنعةٍ للمشاهد على المشاعرِ والسلوكيات لتتوافقَ مع النتائج التي يصلُ إليها؟ أدوارُ الشخصيَّات الثانوية المساعدة للأبطالِ لها أهمية بالغة في إعطاء العمل دلالته، إذ لا يمكن للمَشاهِد أن تستمرَّ بالأبطال وحدهم، وإلا تحوَّل العمل الفني إلى منولوجٍ داخلي يسبر أغوار الشخصيَّة ويسترجع أحداث ماضيها دون أن يكونَ قادراً على تغييرِ قدرها ومستقبلها، وهي الدلالةُ الأهمُّ في عالم السينما، إذ تقدِّمها كمعطىً أخيرٍ لكل عملٍ من أعمالها؛ لأن هدفها ليس ترسيخَ الماضي والإشادة به، بل ارتباطه بالمستقبلِ وتأثيره عليه، وهو ما يفتحُ الباب واسعاً أمام إمكانيَّة حدوث تغيُّرات كبرى على جميع المستويات، تبدأُ من الكلمات والعبارات وصولاً إلى العاداتِ والسلوكيات. السِّينما الجامدةُ هي التي لا تقدِّم فائدة للمشاهد، حيث تكتفي بحشوِ أعمالها بالمواقف المضحكَة والمثيرة دون أن يكونَ هنالك هدفٌ من ورائها، إذ الحياة ليست لوناً واحداً يستمر على الدوام، إنما ألوانٌ متعددة متمازجة متماوجة، يتداخلُ فيها الفرح بالحزن والسعادة بالشقاء والتعب بالراحة والخسارة بالفوز، وعظمةُ السِّينما في تقديمها للتناقُضات وإبرازها على حقيقتها؛ بهدف صَدمِ المُشاهِد والأخذ بيده نحو “لحظَة التَّنوير”؛ كي يكتشفَ ماضيه ويفهمَ حاضره ويعملَ على تغيير وصياغةِ مستقبله.