«ضمير متصل ومنفصل في نفس الوقت»:

قراءة هايدغرية لوسائل التواصل الاجتماعي!

قبل عدة سنوات، كنتُ قد وضعتُ في البايو الخاص بي على منصة X « تويتر سابقًا»عبارة تعريفية تقول: «ضمير متصل ومنفصل في نفس الوقت». بدت لكثيرين جملة طريفة أو لغزًا نحويًا، لكنها في حقيقتها كانت، وما زالت، تلخيصًا لموقف وجودي معقّد: أن تكون حاضرًا في مجتمعك وفي الفضاءات الرقمية التي تحكمها الخوارزميات، دون أن تذوب في معاييرها أو تفقد القدرة على تقرير معنى وجودك. هذه المفارقة، التي تتأرجح بين الانتماء والمسافة، تفتح بابًا لقراءة هايدغرية لتجربتنا في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يتصارع «الـهُمْ» مع إمكانية الوجود الأصيل. لم يكن هايدغر يعرف شيئًا اسمه سناب شات أو تيك توك، لكن تحليله لبنية الوجود الإنساني يكاد يصف بدقة المشهد الذي تصنعه هذه المنصات اليوم. فالمجتمع الذي يتشكل داخلها ليس كيانًا ثابتًا ولا جماعة متماسكة، بل فضاء لحظي متغير، تتحدد ملامحه بتدفق الصور والمقاطع والتفاعلات الفورية. في هذا الفضاء، يصبح الحضور في نظر الآخرين، وتحت أعينهم، هو المعيار الضمني للوجود، حتى وإن لم نقرّ بذلك صراحة. في فلسفة هايدغر، هذه الحالة هي ما يسميه»“السقوط في الـهُمْ» (Verfallen an das Man): أن نحيا كما يحيا «الناس»، حيث تذوب فرادتنا في القوالب الجاهزة، وتضيع أسئلتنا الأصيلة وسط ضجيج الرأي العام والترند اللحظي. في هذه الحالة، لا نختار معاييرنا، بل نتلقاها من شبكة واسعة لا اسم لها سوى «الـهُمْ»؛ كيان بلا وجه، لكنه نافذ السلطة. هنا يثور السؤال القديم-الجديد: إذا كان الوجود الأصيل يقتضي الانفلات من سطوة «الـهُم»، فهل يعني ذلك الانسحاب الكامل من هذه الشبكة؟ هل لا تتحقق الأصالة إلا في عزلة صامتة؟ هايدغر لم يكن ليدعو إلى انسحاب مادي -مثل هذا- من العالم؛ فالإنسان، في بنيته الأنطولوجية الأصلية، هو «كينونة-مع» (Mitsein). نحن لا نحيا إلا مع الآخرين، والمشكلة ليست في المشاركة، بل في الذوبان حتى فقدان القدرة على الإمساك بذاتنا. لكن المنصات الاجتماعية اليوم ليست مجرد «آخرين» بالمعنى التقليدي، بل فضاءات مُصمَّمة بذكاء كي تديم وجودنا فيها، وتعيد تشكيل رغباتنا، وتوجه تفاعلاتنا وفق منطق اقتصادي-خوارزمي. ما يحدث هنا لا يقتصر على تكرار أنماط جاهزة أو تبني آراء الآخرين، بل يتعداه إلى إعادة برمجة الذات في كل لحظة، وقياس قيمتها بمؤشرات مرئية: عدد المتابعين، سرعة الانتشار، تصدر قوائم المشاهدة. في هذا السياق، يصبح البحث عن الأصالة أصعب وأكثر التباسًا؛ إذ لا يمكننا الانفصال الكامل من دون أن نفقد إحدى ركائز وجودنا، ولا يمكننا الذوبان دون أن نفقد أنفسنا. ولهذا تبرز الحاجة إلى موقف وسط، ليس وسطًا رماديًا متخاذلًا، بل توترًا واعيًا بين طرفين. وهنا تكتسب عبارة «ضمير متصل ومنفصل في نفس الوقت» معناها الفلسفي الكامل: الذات التي تعترف بانغراسها في شبكة الآخرين، لكنها تحافظ على مسافة داخلية تمنعها من التحول إلى مجرد صدى لهم. هو وعي يشارك الجماعة دون أن يذوب فيها، يحضر في فضاءات التواصل لكنه لا يمنح الخوارزميات حق تعريف معناه أو تقرير إمكاناته. هو، بتعبير هايدغري، دازاين اختار أن يكون حاضرًا في العالم مع الآخرين، لكن وفق مشروعه الخاص، لا مشروعـ «الـهُمْ». الأصالة في عصر التواصل، إذن، ليست انسحابًا، بل رقصة دقيقة على حافة هاوية: أن نكون جزءًا من المشهد دون أن نُبتلع به، وأن نحمل في وعينا دومًا أن الاتصال لا يكتمل إلا بانفصال يحمي فرادتنا. وقد تكون هذه الرقصة أصعب أشكال الوجود، لكنها تظل أصدقها.