
لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد خبر عابر أو مشروع تجريبي في معامل التقنية، بل أصبح واقعًا حاضرًا يفرض نفسه على التعليم كما يفرض الزمن إيقاعه. في مدارسنا اليوم تتسلل خوارزميات التعلم الآلي إلى الصفوف عبر منصات تقويم فوري، وبرامج تتابع مستوى الطالب لحظة بلحظة، وأدوات رقمية تقدّم للمعلم بيانات تفصيلية تختصر ما كان يحتاج إلى أشهر من الملاحظة والتجربة. لكن السؤال الجوهري يظل قائمًا: هل الذكاء الاصطناعي مجرد أداة لتسهيل التعلم أم أصبح غاية بحد ذاته تهدد جوهر العملية التربوية؟ المعلم حين يقف أمام طلابه لا يواجه نصوصًا مطبوعة فقط، وإنما يواجه عقولًا تبحث عن معنى، ووجوهًا تحتاج إلى من يمنحها الثقة قبل المعلومة، وهنا يظهر الفرق بين ما يمكن أن تقدمه الآلة وما يظل حكرًا على الإنسان. فالذكاء الاصطناعي قادر على تحليل إجابة الطالب بدقة، ورصد الفروق الفردية، والتنبؤ بمسار التعلم، لكنه يعجز عن أن يربت على كتف طفل أخطأ ليشجعه، أو أن يلتقط بصره الحائر ليمنحه طمأنينة تُعيد إليه حماسه، فهذه اللحظات الصغيرة الإنسانية هي التي تصنع الفارق بين تعليم حي وتدريب آلي. ومن قلب الميدان التعليمي يتضح أن التكامل هو الطريق الممكن، لا شك أن التقنية تختصر الوقت والإجراءات، لكنها تظل عاجزة عن صناعة العلاقة التربوية، والمعلم الذي يعرف كيف يوظف البيانات التي تمنحها الخوارزميات ليحوّلها إلى قرارات تربوية هو من يستطيع أن يعيد صياغة المعلومة في قصة أو تجربة أو سؤال مفتوح يفتح آفاق التفكير. عندها يتحول الذكاء الاصطناعي من مجرد وسيلة للتلقين السريع إلى نافذة للبحث والاكتشاف، ويصبح الطالب شريكًا في بناء المعرفة لا مجرد متلقٍ سلبي لها. غير أن الوصول إلى هذه المرحلة يتطلب رؤية مؤسساتية متماسكة. فالتعليم ليس مجرد تزويد المدارس بأجهزة حديثة، ولا تدريب المعلمين على استخدام التطبيقات الرقمية فحسب، بل هو مشروع تربوي متكامل يعيد تعريف دور المدرسة في عصر الذكاء الاصطناعي، بحيث تكون المناهج أكثر انفتاحًا على مهارات التفكير النقدي والإبداعي وألا تظل حبيسة النقل والتذكر، وأن ينال المعلم تدريبًا يتجاوز الجانب التقني إلى بناء كفايات إنسانية قادرة على التوازن بين إدارة المعرفة الرقمية وإدارة العلاقة التربوية داخل الصف. إن الذكاء الاصطناعي ليس خصمًا للمعلم بل فرصة لإعادة تعريف رسالته، بحيث تتيح له مساحة أكبر للتركيز على ما لا تستطيع التقنية فعله: إلهام الطالب، وبناء ثقته، وإشعال فضوله نحو المستقبل. التعليم ليس سباقًا مع الآلة، وإنما مشروع إنساني يتجاوز حدودها؛ فالذكاء الاصطناعي قد يمنحنا خريطة دقيقة، لكنه لن يحدد الوجهة. قد يختصر الطريق، لكنه لن يمنحنا شغف الرحلة، ولهذا يبقى المعلم حجر الزاوية، والطالب هو الهدف، والوطن هو الغاية. * معلم وباحث دكتوراه