
في زمن تزدحم فيه الحكايات وتتشظى فيه الذاكرة العراقية، يبقى للأدب دور نبيل في توثيق الوجع والفرح. وفي صدارة هذا المشهد يقف الروائي والقاص العراقي شوقي كريم حسن شاهدا وكاتبا وراصدا دؤوبا لما مرٌ به العراق من تحولات وانكسارات عرفه القراء كاتبا جريئا ومشاكسا لا يهادن ولا يجامل بل يفتح جراح النص ليصرخ من صوت الحقيقة. عضو اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين وعمل في العديد من الصحف والمجلات العراقية. كتب القصة والرواية والمقالة والكثير من البرامج والمسلسلات الإذاعية وبلغ عدد إصداراته ( ٢٩ ) إصداراً . كان لي معه لقاء سألته : * كيف بدأ القاص والروائي شوقي كريم علاقته مع القصة والرواية، وما اللحظة التي شعر فيها أن الكتابة قدره؟ ولدت علاقتي مع القصة والرواية في الماء وكوانين الليل، في عتمة بيوت القصب همهمات النسوة المقهورات، وفي عيون الأطفال الذين يبحثون عن لعبة لا تسرقها الحرب. لم تك القراءة ترفًا، بل نجاة، وكنتُ كلما التهمتُ كتابًا شعرتُ أنني أهرب من قدر السجن إلى فسحة الخيال. البداية لم تكن لحظة رومانسية بل صدمة… يوم دخل أبي عليّ وأنا أكتب، فمزق أوراقي وقال: الكتابة ما تشبع خبز!! لكنني جُعتُ لها. جُعتُ للسرد كما يجوع المنفي إلى رائحة بلاده. شعرتُ أن الكتابة قدري يوم وجدتُ أنني لا أستطيع النوم إن لم أكتب، ولا أستطيع أن أفهم نفسي أو أغفر لها إلا بالسرد. كانت أول قصة (عندما يسقط الوشم عن وجه أمي) ليست الأجمل، لكنها كانت إعلانًا داخليًا: “أنا أكتب كي أعيش، لا كي أُعجب أحدًا.” * يلاحظ القارئ في أعمالك طغيان البعد الواقعي والنقدي للمجتمع. هل هو موقف فكري أم انعكاس لواقع مُر وعاشه الكاتب؟ أنا لا أكتب الواقع، بل أُمسكه من عنقه وأجبره أن يتكلم. ما تقرؤه في نصوصي ليس انعكاسًا محايدًا، بل موقفاً… جرح، ورفض. أنا ابن بيئة مسحوقة، رأيتُ أمي تُذلّ لأنها أنثى، وأبي يُهان لأنه فقير، وأصدقائي يُعتقلون لأنهم صادقون. فهل يُعقل أن أكتب عن فراشات على ضوء القمر؟ الواقع في كتابتي ليس ديكورًا ولا خلفية، بل هو العدو الذي أفضحه، والعاشق الذي لا أنجو من أسره. نقدي للمجتمع لا يأتي من برج عاجي، بل من قاع عشته، من سجون دخلتها، من بطون جائعة نادتني بأسمائها، من نساءٍ بكت في صدري لأن لا أحد سمعهن. أنا لا أختلق وجعًا، بل أترجمه الى موقف فكري. * كيف تتعامل مع رواياتك؟ هل تخلقها في الخيال أم تستند إلى وجود من الواقع العراقي؟ أنا لا أتعامل مع الرواية كأنها منتج فني فحسب، ولا أقترب منها بوصفها قالبًا جاهزًا تُسكب فيه الكلمات. الرواية عندي كائن حيّ، ينمو معي، يمرض إن مرضت، ويصرخ إن صمتُّ. لحظة البداية لا تأتي من قرار، بل من ارتجافة داخلية، من هاجس يطاردني ليلًا، من وجهٍ لا أعرفه لكنه يلحّ على الظهور في الكتابة. غالبًا ما تبدأ رواياتي من صورة: امرأة تمشي على حافة نهر في بغداد، طفل يبكي بين ركام الحرب، سجين يهمس باسمه في زنزانة بلا ضوء. هذه الصور لا أختلقها من الخيال المجرد، بل من ذاكرة متخمة . * ما الفرق الجوهري بين القصة والرواية برأيك؟ وأيهما أقرب إليك؟ القصة والرواية كلاهما من لحم اللغة، من شهوة الحكي، من وعي الإنسان بالزمن والحدث والمصير. لكن الفرق بينهما، في تصوري، ليس فرقًا في الحجم أو عدد الكلمات، كما يُظن عادة، بل في النَفَس والرؤية وعمق الاشتباك مع الزمن الإنساني. القصيرة ومضة برق. لحظة مكثفة، مختزلة، قادرة على أن تحرق. هي تشبه صرخة، أو لقطة خاطفة، أو لحظة انكشاف. تُبنى غالبًا على موقف واحد، شخصية واحدة، إحساس واحد، لكنها تملك القدرة على زلزلة المتلقي من الداخل. القصة لا تهتم كثيرًا بالتفاصيل، تذهب مباشرة إلى العصب، إلى الجوهر، إلى الوجع المكثف. هي لحظة واحدة من حياة كاملة، لكنها تختصر الحياة كلها. أما الرواية، فهي نهر. لا تستطيع عبوره في خطوة واحدة. مشروع وجودي، معمار سردي ضخم، يحتاج إلى تأمل، وإحاطة، وبناء دقيق للشخصيات . * كيف ترى السرد العراقي بعد ٢٠٠٣، وهل تعتقد أنه استطاع أن يواكب التحولات الجدلية في المجتمع؟ لسرد العراقي بعد 2003 لا يمكن النظر إليه نظرة واحدة أو تصنيفه بسهولة ضمن تيار أو اتجاه محدد، لأنه جاء بعد زلزال سياسي واجتماعي وثقافي غير مسبوق في تاريخ العراق الحديث. الاحتلال الأميركي، وانهيار الدولة، وصعود الطائفية، وتحطيم البنية المؤسسية والثقافية للدولة، عوامل جعلت من السرد مساحةً للاحتجاج، والحيرة، والانكسار، وأحيانًا للتواطؤ أو التبرير. لكن في العمق، يمكن القول إن السرد العراقي في هذه المرحلة صار مرآة مشروخة تعكس واقعًا متشظيًا، متوتّرًا، لا قرار له. فنيًا، انفتح السرد العراقي على تجارب جديدة في اللغة والبنية والأسلوب. بدأ كثير من الكتّاب باستخدام تقنيات ما بعد الحداثة مثل التداخل الزمني، وتعدد الأصوات، وتهشيم التسلسل التقليدي للحدث، مع حضور مكثف . * معظم أعمالك تتبنى الألم العراقي العميق، هل ترى في الأدب وسيلة لتطهير الذاكرة؟ الألم العراقي ليس خيارًا أدبيًا بالنسبة لي، بل قدر وجودي… حين تكتب عن العراق، لا تكتب عن جغرافيا، بل عن جرح نازف في قلب التاريخ. بلد تأسّس على التناقضات، واستُنزف على مدار قرون بالصراع، بالخذلان، وبالوعود المؤجلة. وحين أكتب، لا أمارس فعل الكتابة بوصفه ترفًا فنيًا، بل بوصفه طقسًا وجوديًا، محاولة لفهم هذا الخراب… لا لتبريره، بل لتشريحه. * ما هي المكانه التي تحتلها بغداد في ذاكرتك الكتابية وأنت جنوبي المنشأ، وهل فقدت اسمها أم مازالت ملهمة ؟ بغداد في ذاكرتي الكتابية ليست مجرد مدينة جغرافية أو موقع تاريخي عابر، بل حالة وجدانية عميقة، نهر متدفق من الذكريات، الأساطير، والألم المتراكَم عبر الزمن. رغم أنني جنوبي المنشأ، وُلدت في مناطق تغص بعبق الطين ونفح النخيل والقصب، إلا أن بغداد تحتل في داخلي مكانة استثنائية، فهي كبرى أمهات المدن العربية، كانت ولا تزال القلب النابض الذي يرفد العراقيين، بغض النظر عن أماكن ولادتهم أو انتماءاتهم الجغرافية. بغداد الحكاية الكبرى، الأسطورة التي تحاور الذاكرة العراقية بمزيج من الحنين والوجع. المدينة التي جمعت في تاريخها العظيم حضارات لا تحصى، التي احتضنت علمًا وثقافة وأدبًا أضاءت بهما العالم في عصور كان العراق مركز الحضارة والنهضة. في كتاباتي، بغداد ليست مكانًا أو عنوانًا، بل شخصية حية، لها صوت، رائحة، وألوان لا تنتهي. التداخل النفسي والثقافي، كوني جنوبيًا، يحمل بداخلي صدى القصب والاهوار وأغاني الموجوعين، والحنين إلى سماء الجنوب الواسعة، لكن بغداد كانت وما زالت، عبر نصوصي، الجسر الذي يربط هذا الجنوب بالهوية العراقية الجامعة. عبرت بغداد في أدبي مثل مدينتي الناصرية التي احتضنتني من بعيد، والتي علمتني كيف تكون الحكاية العراقية متشعبة، والهوية محاطة بالأمل والدموع، كيف يتلاقى الماضي بالحاضر في فضاء سردي مشحون بالأسئلة والقلق. * كيف ترى دور الكاتب العراقي اليوم وسط هذا الكم من الأزمات؟ الكاتب العراقي اليوم وسط هذا الكم الهائل من الأزمات دور بالغ التعقيد، لكنه في الوقت نفسه يحمل أبعادًا من المسؤولية والحرية لا يمكن التنازل عنها. الكاتب العراقي، في ظل واقع يختنق بالصراعات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، يعيش مأزقًا حقيقيًا بين واجب النقد والكتابة، وبين خطر الانزلاق إلى السطحية أو الصمت أو حتى التخاذل. هو ليس فقط ناقلًا للأحداث، بل شاهدٌ حي على مجتمعه، وموثقٌ لحكاياته، ومرآة تعكس آلامه وآماله. في ظل هذه الأزمات، على الكاتب أن يكون أكثر من مجرد راوٍ؛ عليه أن يتحول إلى كاشف، إلى مُفكّر يحفر في أعماق الواقع، يبحث عن جوهر الأزمة لا عن مظاهرها فقط. * ماهي اخر إصداراتك ؟ بإيجاز لكم أصدرت ( ٢٩ ) من الاصدارت تشمل القصة والرواية ناهيك العديد من المسلسلات التاريخية والبرامج الإذاعية في اذاعة جمهورية العراق. مع الروائي العراقي شوقي كريم حسن لا تنتهي الحكايات ولا تغلق دفاتر الوجع فهو من أولئك الكتاب الذين لا يكتبون ليعكسوا الواقع كما هو فحسب، بل ليكسروا الصمت الثقيل. حديثه يحمل صدق التجربة ومرارة التاريخ الذي يحمل وطنه بين السطور ويمنحنا رغم الألم أملا بأن الكلمة دورا وللذاكرة صوتا لايمكن ان يمحى .