الزائر الثقيل.

الملل زائر ثقيل يتسلل إلى حياتنا بين الحين والآخر، لا يفرق بين صغير وكبير، ولا بين غني وفقير. يطرق الأبواب دون استئذان، فيغير نكهة الأيام، ويترك في النفس شعورًا بالعزلة والانفصال عن العالم. لحظاته بطيئة وثقيلة، تمضي كما لو أن عقارب الساعة قد تآمرت على إطالة الوقت. في تلك اللحظات القاسية، تميل النفس إلى التشاؤم، ويتسرب إليها الإحباط والخوف والهم، فنردد بلا وعي عبارات مثل “طفشان” و*“زهقان”* في مختلف مراحل حياتنا. وللملل أسباب عديدة: قد يكون فراغًا طويلًا بلا عمل، أو أزمة مالية ضاغطة، أو رتابة يومية لا تنكسر، أو حتى انتظارًا لأمر طال مجيئه. حينها، يصبح التفكير مثقلًا بالتردد، والوقت يمضي متثاقل الخطى، حتى يغدو الأمل فيه كالسراب. ولعل الشاعر أبا الفضل بن شرف عبّر عن هذا الحال حين قال: تقلدتني الليالي وهي مدبرة كأنني صارم في كف منهزم. ومع ذلك، فالملل ليس مجرد حالة نفسية، بل هو أيضًا انعكاس لواقع اجتماعي فقد الكثير من مساحات التلاقي والتواصل. فكم منّا يعرف جيرانه حق المعرفة؟ وكم مرة تفقدنا بعضنا أو افتقدنا بعضنا ؟ أعتقد أننا بحاجة إلى إعادة إحياء الروح الاجتماعية في أحيائنا. لِمَ لا يسمح بوجود مقاهٍ صغيرة داخل الأحياء تابعة لأمانات المدن وبلديات المحافظات، خاصة بالقرب من الحدائق أو بجوار الملاعب أو حول المدارس، مثل تلك التي تنبض بالحياة في شهر رمضان؟ هذه الأماكن يمكن أن تكون بمثابة “ديوانية” حديثة أو “مجلس” مفتوح، يتبادل فيه الناس الحكايات والقصائد، ويجد فيه الكبار والصغار متنفسًا بعيدًا عن جدران البيوت ورتابة الأيام. فليس كل الناس يستطيعون السفر أو كسر الروتين بطرق مكلفة؛ هناك من يثقلهم ضيق الحال، وهناك أصحاب الأسر الكبيرة، وهناك الأيتام وكبار السن الذين يعيشون في عزلة. لكن اجتماع أهل الحي في مكان بسيط وودود كفيل بأن يمنحهم شعور الأسرة الواحدة، ويعيد للحياة شيئًا من بساطتها وجمالها ولكن بلا ملل.