القبول، التقبّل، والرضا.

ثلاث مفردات نرددها كثيرًا في أحاديثنا، نظنها مترادفات، تؤدي المعنى ذاته. غير أن الحقيقة تحمل بين حروفها فروقًا خفية، لكنها عميقة. وهي فروقٌ تُبدّل الطريقة التي نرى بها أنفسنا، والناس، والقدر. القبول هو أن ترفع راية الإذعان في وجه الواقع، دون أن يعني ذلك أنك مرتاح له. هو أن تقول «نعم» لأنك لا تملك خيار الرفض، أو لأنك تعبت من المقاومة. كأن تقبل اعتذارًا لم يلامس قلبك، أو وظيفةً براتب لا يليق بك، فقط لأنك بحاجة إليها. القبول قد يكون استسلامًا ناعمًا، لا حبًّا، ولا رضا. إنه أشبه بوقوف العقل عند عتبة الأمر، دون أن يدخله القلب. أما التقبّل، فهو مرتبة أعمق؛ حيث يهدأ العقل ويطمئن القلب. هو أن ترى النقص فلا تُدين، وأن تلامس العيب دون أن تُنكر. التقبّل لا يعني أنك تُحب ما أمامك، بل أنك تدركه، وتفهمه، وتعي أنه جزء من معادلة الحياة. هو أن تتصالح مع نفسك بكل شقوقها، وأن ترى الآخرين بعين العذر، لا بعين الحُكم. ثم يأتي الرضا ، وهو مقامٌ لا يُطال بسهولة. هو سكينةٌ داخليّة، بلا صخبٍ ولا صراع. هو أن تُسلّم، لا اضطرارًا، بل إيمانًا عميقًا. أن تنظر إلى ما كتبه الله لك، وتبتسم من أعماقك، حتى وإن لم تُدرك بعدُ الحكمة. في الرضا، لا مكان للتذمّر، ولا سعي لتعديل ما لا يُعدّل. الرضا يُشبه السلام مع القدر، كأنك تقول: «أنا في مكان لا أريد تغييره، لا لأنه مثالي، بل لأنه لي، وقد اختير لي بعين الحكمة.» وحين تأملت هذا المعنى، أدركت لماذا علّمنا النبي _صلى الله عليه وسلم _ ن نردد: «رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ _ صلى الله عليه وسلم _ نبيا “ فالرضا هنا، ليس لفظًا يُقال، بل مقامٌ روحيّ تصعد إليه بدرجات من الفهم والتسليم. وتذكرت الحديث: «من رضي، فله الرضا « كنت أتساءل كثيرًا: كيف أرضى؟ أهو شعور؟ أم قرار؟ أم شيء يُكتسب؟ لكن بعد أن وضعت هذه المفردات الثلاث بجانب بعضها، أدركت أن الرضا ليس فقط قبولًا أو تقبّلًا، بل هو اكتمال الدائرة، واكتمال الفهم . ثم قفز إلى ذهني فيلم (Irish Wish – أمنية أيرلندية) تجلّى فيه هذا المعنى بوضوح، فالبطلة، محرّرة كتب، كانت مأخوذة بصورة مثالية عن كاتبٍ كانت تساعده، تمنّت –بسذاجة القلب– لو أنها العروس التي اختارها بدلاً من صديقتها. وحين تحققت أمنيتها، اكتشفت أن ما أحبّته لم يكن الرجل، بل خيالها عنه. لم يكن هناك تقبّل، ولا رضا، فقط «قبول» مشوّش بأمنية غير ناضجة. وفي لحظة صدق، طلبت من الساحرة أن تُعيد الأمور إلى سابق عهدها. كانت تلك لحظة نضوج... لحظة فهمت فيها أن بعض ما نريده لا يناسبنا، وأن السلام لا يأتي من تحقيق كل الأمنيات، بل من الرضا بما لم يتحقق. ويعد تجسيد هذا المعنى العميق من خلال الفيلم دليلاً على أن للفن السينمائي رسالة سامية تؤثر في حياتنا، لا سيما حين يكون العمل مشبعًا بهذا القدر من الوعي والرسائل الإنسانية السامية . و تذكرت مشاهد من حياتي، كنت فيها في صراع مع ما كان، واليوم، حين أنظر إليها، أعلم أنني لو رضيت حينها، لوفّرت على نفسي الكثير من الاستنزاف، ولكنت أقرب للسلام... ولكان ذلك هو الخيار الأمثل. لكن أدواتي النفسية يومها، لم تكن تعرف معنى الرضا.