رعب القنبلة الذريّة في هيروشيما.

منذ ثمانين عاماً، وبالتحديد في اليوم السادس من أغسطس 1945، ألقتْ الولايات المتحدة الأمريكية أول قنبلة ذريّة على مدينة “هيروشيما”، قُتل من جرّاء انفجارها والإشعاعات التي أعقبتها أكثر من 140 ألف شخص. وقد كان من الناجين من تلك الكارثة في هيروشيما السيدة “توشيكو ساساكي”، والتي لم تستطع أن تكبح مشاعر الرّعب والخوف والألم الذي عانته في ذلك اليوم وأخفته لمدّة عشرين عاماً، فحكت قصّتها للصحافة عن تلك المأساة، في عام 1965. كانت توشيكو في الخامسة والثلاثين من عُمرها يومئذٍ، وكان قد مضى عامٌ على وفاة زوجها، الذي كان مُلازماً في الجيش الياباني، انقطعتْ أخباره عنها منذ عامين، وفجأةً تلقّتْ برقية من القيادة، فحواها: “لقد قُتل زوجك بطلاً مغواراً في معركة خاضتها قوّاتنا في سنغافورة”. وبحثت توشيكو بعد وفاة زوجها عن عملٍ، فحصلت على وظيفة “أمينة مكتبة” في شركة كبيرة لإنتاج الصفيح، وكانت تعيش وابنتها الصغيرة مع حماتها، أما والديها فقد كانا يعيشان وحيدين في قرية تبعُد عن هيروشيما مسافة 15 ميلاً بعد أن التحق شقيقها بالجيش. وفي ذلك اليوم المشؤوم، استيقظت توشيكو كعادتها في الساعة السادسة صباحاً، وغادرت منزلها في الطريق إلى عملها، بعد أن أوصت ابنتها بأن تُطيع جدَّتها فلا تُسبّب لها المتاعب. وصلت إلى الشركة وبدأت العمل، وفي الساعة الثامنة إلا رُبعاً انطلقت صُفّارات الإنذار تُحذّر من الغارات الجويّة، ففزعت وجلست إلى مكتبها تُحاول جاهدةً أن تتحكّم في أعصابها.. وبعد دقيقة واحدة لمع ذلك الوهج الشديد؛ وهجٌ أصفر فظيع، كأنما قطعةٌ من الشمس قد انقضّت على الأرض، تغمرها بضوءٍ مُلتهبٍ يُعمي الأبصار. سمعت أصوات زجاجٍ يتحطّم، ووجدت نفسها تطير من مكانها إلى وسط حُجرة المكتبة، وكانت الجدران تتداعى وكلّ الأثاث يتطاير وانخلعت الأرفف وطارت لترتطم بالسقف ثم تتساقط فوق توشيكو، فارتمت على الأرض، ولعلّها مُعجزة ربّانية تلك التي جعلتْ الأخشاب تسقط فوقها في شكلٍ هرَميّ يحميها ويُحيطها بفجوةٍ تكفي لكي يُمكنها أن تتحرّك تحتها بحُريّة، ورأت زميلها “ماساكازو” سكرتير المكتبة مُلقى على الأرض، على بُعد مترٍ واحد منها، يتنفّس بصعوبة شديدة. وكان الوهج الأصفر الشديد الذي بدأتْ به الكارثة قد تلاشى، وخيّم بعده جوٌّ مُعتم كريه، وكان كلّ شيء حولها في الحجرة قد هدأ حتى تنفُّسْ زميلها قد خمد بعد أن فارق الحياة، وبدأت تسمع أصوات أنين وصراخ في الشارع. وفجأةً تذكّرت ابنتها وحماتها، ودبّ فيها نشاطٌ هائل، فتسلّلت زاحفة على يديها ورُكبتيها، ثم وقفتْ واندفعت إلى الشارع، مُخترقة الجدار المُتداعي أمامها. وكان الجو غريباً جدّاً، أشبه بساعة الغروب في يومٍ مُكفهرّ مليء بالسُّحب، ولكن السُّحب لم تكُن كما تعوّدتها، بل كانت تجمُّعاتٍ غريبة من أتربة وأدخنة داكنة ذات رائحةٍ مُنفّرة. وكان منظر المدينة حولها مُرعبا وكأن القيامة قد قامتً؛ النار مُشتعلة في بقايا المباني، والدّنيا أمامها على امتداد بصرها رُكام وحُطام.. الحيطان مائلة مُنهارة، والشوارع صاعدة هابطة، والناس القادرون على المشي شاخصةً أبصارهم يترنّحون على غير هُدى، والعاجزون متمدّدون على الأرض يصرخون ويتأوّهون ويموتون! واتّجهت توشيكو بغريزة الأُم نحو الطريق الذي تظنّه يقود إلى بيتها، إذ لم تكن هناك المعالم التي تعوّدت على رؤيتها للوصول في الذّهاب والإياب.. كان كلّ شيء قد انقلب حاله وأصابه الدمار وتغيّرت ملامحه، ومع ذلك فقد اتّجهت إلى الجهة الصحيحة، واستطاعت أن ترى من خلال الجوّ المُعتم بقايا بيتها، وخاضت بين الأتربة والأنقاض وهي تصرخ مُناديةً ابنتها وحماتها ولا أحد يُجيبها، ولم تكن وحدها في تلك الكارثة، فقد كان كلّ الناس في الشارع يصرخون ويُنادون! ودارت بين الأنقاض المتراكمة مرّةً وراء مرّة، ترفع لوحاً من الخشب أو قطعة من الحجر، على أمل أن تعثر لهُما على أثرٍ ولكن دون جدوى، وعادت تندفع في الطريق كالمجنونة، وكان الناس حولها يتساقطون على الأرض، وكان يُفزعها تساقط الأطفال وتأوّهاتهم، وكانت كلّما رأت طفلاً يسقط أسرعت إليه تتأمّله وتتفرّس في وجهه علّه يكون وجه ابنتها! وفي الطريق وهي تجري بلا هدف، خطر لها أن تتّجه إلى بيت والديها في الضواحي، فأسرعت المسير، وبعد أربع ساعات مُضنية، وصلت إلى بيت والديها، ولمّا فتحا لها الباب سقطت فاقدةً الوعي، وراحت في غيبوبة طويلة إلى صباح اليوم التالي.