قصيدة الثلج!

لم أكن مخطئا، أو أنني اقتربت من الصواب، حين وصفت قصيدة النثر برأس الجبل الجليدي، وأن الترقّي إليها يلزمك تجربة طويلة مع الشعر حتى تصل إلى الثلج الساخن في أعلى الجبل، وهو ساخن جدا لأنه بلغ أعلى درجات الصقيع، وهكذا تفعل قصيدة النثر في مفارقاتها حين تبلغ ذروة الشعور. لم أكن مخطئا لأني وجدت رواية قصيرة لماكسنس فرمين بعنوان ثلج، تؤكد هذا الرباط الوثيق بين شعر الهايكو الياباني والثلج، وهل قصيدة النثر في وجه من وجوهها إلا هايكو في كثافته وشعريته وعلاقته مع الطبيعة في بساطتها وبراءتها الأولى؟! اعتاد يوكو، بطل الرواية ، «أن يخرج مبكرا جدا من البيت وأن يمشي في اتجاه الجبل. كان دوما يتردد إلى المكان نفسه لتأليف قصائده. كان يجلس متربعا تحت شجرة ويبقى كذلك لساعات طوال، منتخبا في السر المقاطع السبعة عشر الأجمل في العالم، وفي آخر الأمر عندما يمسك بزمام قصيدته يخطّها على ورق حرير. في كل يوم قصيدة أخرى، إلهام جديد، في كل يوم منظر مغاير، ألق آخر، ولكن دوما قصيدة الهايكو مع الثلج إلى أن يهبط الظلام». هكذا تفضي برودة الثلج الشديدة إلى حرارة القصيدة، وإلى كثافتها، تماما كما يفعل الماء الجاري حين يتجمد في لحظة واحدة فيكتب قصيدته الأولى والأخيرة على إيقاع الثلج، ولا غرو، «فالثلج قصيدة، قصيدة ذات بياض لألاء»، وكذلك قصيدة النثر ندفة ثلج لا تحفل بغير الموسيقى الداخلية التي تتوقد في عمقها من شدة كثافتها، أو هذا ما ينبغي أن تفعله في نموذجها الأكمل، ولا يضرها بعد ذلك ولا قبله ما تتركه من أثر في المتلقي لأن أثر قصيدة النثر مثل الهايكو أثر داخلي في نفس الكاتب، فهي ممارسة للكتابة من أجل الشعور بالحياة، لا من أجل تمرير هذا الشعور للمتلقي، فالتلقي في أفق قصيدة النثر يمتد رأسيا لا أفقيا، أي أن الكاتب هو الشاعر والمتلقّي معا؛ فالتجربة الشعورية فيها انكفائية لا تخاطب، وإنما تشعر وتعيش، وتوغل عميقا في الذات بمقاطع قصيرة توازي تجربة الهايكو الياباني والشذرات الصوفية عالية العبارة، فإذا ما قُدّر لها التلقي الخارجي فهو مشروط بتجربة موازية يتلقّى فيها الشاعرُ الشاعرَ، والشعرُ الشعرَ، كما لو كانت تجربة بين مرآتين، لا تدري بينهما من هو الآخر؟ الثلج أم القصيدة؟!