
كان الزيت المستخرج من حبوب السمسم المعروف باسم: السَّلِيْط من أهم المنتجات المحليّة التقليدية التي اشتغل بها قطاع كبير من الأهالي في بعض مناطق المملكة العربية السعودية ومحافظاتها, ومنها محافظة القنفدة، وتهامة منطقة عسير اللتان من المرجّح أن لهما قَصَب السَّبق في هذه الحرفة التقليديّة المهمّة والمتوارثة كابرًا عن كابر. لا بوصفها أداة تسبيح فقط، بل رمزًا لجمالية التفاصيل التي تختزل ماضيًا روحيًا وحرفة متجددة تواكب الحاضر. ويجئ اختياري لهذا الموضوع في سياق اهتمام أقسام الآثار والتراث في المملكة العربية السعودية وفي خارجها باعتماد مقرر الحرف والصناعات التقليدية في خططها الدراسيّة بوصفها دلالاتنا على الماضي السحيق, ووسيلتنا الملموسة للتعرف إلى ما يختزنه باطن الأرض من مستلزمات حياتية استخدمها الأجداد منذ أزمنة موغلة في القدم, وهي ما نطلق عليها اسم: الآثار (Archaeology or Antiquities). هذا من جانب, ومن جانب آخر ما نلحظه أيضًا من اهتمام الدول على مستوى عالمي, وعلى رأسها دولتنا الحبيبة المملكة العربية السعودية بإدارة موارد التراث التقليدي بوصفها إحدى مقومّات السياحة, وما يترتب عليها من إسهامها الفاعل في الدخل الوطني, وفي توفير فرص عمل جديدة ومستدامة لأبناء الوطن وبناته, ولا أدلّ على ذلك من تسمية هذا العام: 2025م في المملكة العربية السعودية بعام الحرف اليدوية. تلك التسمية التي تجئ مسبّباتها «ترسيخًا لمكانة الحرف اليدوية بوصفها تراثًا ثقافيًّا أصيلًا, وتعزيزًا لمزاولتها وصونها واقتنائها, وتوثيق قصصها وحضورها في حياتنا المعاصرة», ومنها حرفة عَصْر حبوب السمسم, واستخراج زيته. وكما هو معروف حتى عصر الناس هذا بأن الزيت المستخرج من حبوب السمسم كان ولا يزال من أهم المنتجات التقليدية المحليّة التي قلّ أن تجد محافظة من محافظات المنطقة أو قرية من قراها دون أن تكون فيها عدة معاصر تعمل على عَصْر السمسم, واستخراج زيته بالطرق التقليدية التي كانت سائدة في المنطقة إلى أن جرى استبدال الآلة الميكانيكية بالجمل الذي كان علامة مميزة في مزاولة تلك المهنة حتى عهد ليس بالبعيد(١), وهي - دون شك - مهنة مربحة, وإلا لما استمرت قائمة ومتوارثة عبر الأجيال حتى اليوم ويعدّ السمسم الذي تقوم عليه هذه المهنة أو الحرفة من المحاصيل الزيتية القديمة التي عُرفت في قارتي آسيا وأفريقيا منذ أقدم العصور, وحبوبه تحتوي على مواد دهنية تتراوح نسبة الزيت فيها ما بين 50 إلى 60%, ونسبة البروتين تتراوح ما بين 22-25%, لذلك فهي تُعطي إنتاجية زيتية أكثر من أي محصول زيتي آخر. وهي مصدر لأجود أنواع الزيوت المعروفة لاحتوائه على نسبة عالية من الحموضة غير المشبعة على حد قول أهل الاختصاص. (٢) وهو محصول زراعي قديم عُرف في آسيا قبل 5000 عام, وقيل إن مصدره الأساسي القارة الهندية, وعُرف في العراق في عام 4.300 قبل الميلاد, وفي مصر عرف قبل 4000 عام من الميلاد, وكان يُزرع في سوريا وفلسطين في حوالي 3000 قبل الميلاد, وعُرف في جنوب شبه الجزيرة العربية في القرن الخامس قبل الميلاد(٣). وعُثر على بعض حبوب السمسم في حفريات جامعة الملك سعود في موقع «قرية» الأثري بالفاو أي قبل أكثر من 1800 عام من الآن(٤), وورد ذكر الزيت المستخرج من حبوب السمسم في معلقة الشاعر الجاهلي امرئ القيس الكندي(٥), وكذلك في شعر الشاعر قيس بن عبدالله بن ربيعة الجعدي, المعروف بالنابغة الجعدي(٦), وهو شاعر مخضرم, عاش في الجاهلية, وأدرك الإسلام فأسلم, وتوفي في عام 65هـ/684م(٧). ولابد أن السمسم والزيت المستخرج منه كان معروفًا في تهامة منذ عصور موغلة في القدم, لما نلحظه من الإرث الثقافي المتّصل لهذه النبتة الطيبة التي ظلت زراعتها معروفة وحيّة في موروث تهامة عسير, وعموم جنوب غرب المملكة العربية السعودية وتهامة اليمن, ويمارسها قطاع ليس بالقليل من أهلها حتى اليوم(٨), وبه تجود أراضيها الزراعية الطينية في أوديتها الفيضيّة, ولا سيما ذلك النوع من السمسم ذي اللون البنيّ الداكن المعروف باسم الجِلْجِلَان(٩), وهو مشهور بكبر حبته, واحتوائها على كمية كبيرة من الزيت تفوق تلك التي توجد في السمسم الأبيض الذي يُستورد من خارج المملكة العربية السعودية. وللسمسم استخدامات أخرى غير استخراج الزيت من حبوبه. ومن أهم تلك الاستخدامات دخوله في صناعة أنواع مختلفة من الحلوى, ولاسيما ذلك النوع المعروف بالطحينة. وتُصنع في عدد من مناطق المملكة العربية السعودية منها: مكة المكرمة, وجازان, وعسير, ونجران, وغيرها(١٠). على أن الذي يهمنا في هذه المقام هو الزيت المستخرج من السمسم, ويُعرف تجاريًّا باسم زيت السمسم, ومحليًّا, وعند عامة عسير وتهامتها وحواضر الحجاز وتهامة اليمن يُعرف باسم السَّلِيْطَ, وهو لفظ عربي فصيح طبقًا لما يقوله ابن منظور في لسان العرب. وهو الذي عناه امرؤ القيس بقوله: يُضيءُ سَناهُ أو مَصابيحُ راهِبٍ ... أمالَ السَّليطَ بالذُّبالِ الْمُفَتَّلِ(١١) ويقول النابغة الجعدي: يُضِيُء كَضُوْءِ سِراجِ السَّلِيْطِ ... لم يَجْعَلِ اللهُ فيه نُحاَسَا(١٢) ويقول عنه الفرزدق: ولكن دِيَافِيٌّ أَبُوْهُ وأْمُّهُ ... بِحْوْرَانَ يَعْصِرْنَ السَّليْطَ أَقَاِربُه(١٣) ويروى عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قوله: «رأيت عليًّا [يقصد علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم صفين] وكأن عينيه سراجا سليط»(١٤). وعُرف زيت السمسم في قواميس اللغة العربية, ولدى الجغرافيين المسلمين باسم السَّلِيْط أو الشَّيْرَج. وتقوم فكرة استخراجه على وضع كمية معينة من حبوب السمسم في جوف كتلة ضخمة منجورة أو مصنونة من الخشب الصم تُدار بواسطة الجمال, وتسمى المِعْصَرَة, ثم تُعصر هذه الكمية, وتحرّك تحت ثقل وضغط شديدين بواسطة السُّك, وما يتصل به من مواد قوامها جهاز معقّد من الخشب والأحجار التي تدخل في تركيب المعصرة(١٥). وقبل الدخول في التفاصيل الدقيقة لعملية استخراج السليط من حبوب السمسم بصورته النهائية يجدر بنا أن نتعرف على المِعْصَرَة, وعلى الأجزاء التي تدخل في تركيبها, وعلى وظيفة كل جزء من هذه الأجزاء, وذلك على النحو الآتي: ١- المعصرة: تُصنع المِعْصَرَة أو تُنْجَرُ من خشبة كبيرة عريضة مخروطة الشكل غالبًا من خشب السِّدْر القويّ, قطرها من الأعلى حوالي متر واحد, وتقل في العرض من أسفل لكي يساعد ذلك على غرس جزئها السفلي تحت الأرض بهدف تثبيتها, وتقويتها, وإحكام توازنها, وعدم ميلانها, ويبلغ طولها ثلاثة أمتار ونصف المتر, منها متران تدفن تحت الأرض, وهي التي تشكل الجزء المخروطي من المعصرة قبل إرسائه, ثم متر واحد ونصف المتر من بدن المعصرة, هو الذي يبرز من فوق وجه الأرض, وهو الذي تتصل به الأجزاء المختلفة من المعصرة التي سنأتي إلى ذكرها, وتظهر في الصورة والشكل المرفقين بهذا. ويفضّل أن تكون الخشبة التي تُتَّخَذ منها المعصرة من النوع القويّ, ومنه خشب السدر, والإِبْرَاء, ونحوهما. ويقع جوف المعصرة الذي يتم فيه عصر السمسم, واستخراج الزيت, في الجزء الأعلى الظاهر منها, وهو يتكوّن من تجويف عريض وغير عميق يسمى الصَّحْن, بحيث يبلغ عمقه حوالي 20سم, وقطره 80سم, أو يزيد بحسب عرض المعصرة, ثم يُحفر في الصحن تجويف آخر متدرج في الاتساع من أعلى إلى أسفل, حتى يكون مريحًا لحركة دوران السُّكّ بواسطة القَوْبَع, ويتراوح عمق تجويف السُّكّ بين 50 إلى 60سم. ٢- السُّكّ: عبارة عن كتلة خشبية صَمّاء, اسطوانية الشكل, ناعمة الملمس, تُتّخذ من خشب السدر, وتكون عريضة القاعدة من أسفل, ومدببة الرأس من أعلى حتى يدخل رأسها في تجويف القَوْبَع الواصل بينها وبين السَّاحنة. وتتمثل وظيفة السك في أنه يوضع في جوف المعصرة, ويوضع السمسم من حوله, وهو الذي يشكل الوسيلة الضاغطة على السمسم حينما يدور بدوران الساحنة, وما عليها من أثقال. ويتراوح طول السك بين 100 إلى 120سم, معظمه في جوف المعصرة, والجزء البارز منه من الأعلى هو الذي يتصل بالقوبع. ٣- القَوْبَع: هو عبارة عن خشبة سميكة قوية مقوّسة لها طرفان, أحدهما, وهو العلوي, به حفرة توضع على الرأس المدبّب للسُّكّ المتّصل بجوف المعصرة, والثاني به ثقوب تربط بواسطة خُلُل, أو أخَلَّة خشبية بجهاز الساحنة والسروايل المتصلة بها, والقوبع هو الذي يولّد دوران السك عندما تدور الساحنة إيذانًا ببداية طحن السمسم وعصر زيته. ٤- الساحنة: تعدّ الساحنة من أهم الأدوات التي تدخل في تركيب المعصرة, وهي عبارة عن خشبة طويلة متينة وقوية تشبه مع الدائر المثبت في جزئها الذي يلي بدن المعصرة, شكل الإبهام والسَّبَّابة حينما ينفرجان, ويثبّت في طرفها المقابل قطعتان خشبيتان بعضها متصل ببعض تسمى السيف. ويوضع على ظهر الساحنة الممتد بين الدائر والسيف الأحجار والأخشاب المتصلة بها, والتي تشكل الثقل الضاغط على السّك الذي يضغط بدوره على السمسم ليتم طحنه, وبالتالي عصر مافيه من زيت. وتؤدي الساحنة وظيفتها بوضع الطرف المتشعّب الذي يشبه الصعدة على خاصرة بدن المعصرة, ثم تُحَمَّل بالأثقال,, وتُربط بواسطة السيف إلى صفحة الجَمَل اليمنى ليتم دوران الجهاز, ويحدث العصر. ٥- الداير (الدائر): عبارة عن قطعة خشبية صغيرة تثبّت في الساحنة مما يلي بدن المعصرة, ووظيفتها تتمثل في الحيلولة دون اصطدام الساحنة ببدن المعصرة. ٦- السراويل: توجد على ظهر الساحنة بين الدائر والطارفة, وتتصل بالقوبع المربوط إليها, وهي التي تساعد على تثبيته من جهة, ثم دورانه من جهة أخرى عندما تدور الساحنة. ٧- الطارفة: قطعة خشبية تثبت في ظهر الساحنة بين السراويل والثقل، ومن مهامها إسناد الثقل من ناحية، ومنعه من التحرك في اتجاه السراويل والدائر من ناحية أخرى . ٨- العروس: قطعة خشبية تشبه الطارفة تثبّت في ظهر الساحنة ، وتتمثل وظيفتها في إسناد الأثقال من الجهة التي ترتكز فيها، ومنعها من التحرك في اتجاه السيف. ٩- الأثقال : تتكون الأثقال من صخور، وأكياس مملؤة بالرمل توضع على ظهر الساحنة في ما بين الطارفة والعروس، وتكون وظيفتها زيادة الثقل الضاغط على السك حتى تحقق القوة اللازمة لسَحْن السمسم، واستخراج الزيت. ١٠- السيف : مكوّن من قطعتين خشبيتين متصل بعضها ببعض من جهة، ومتصلتين بطرف الساحنة الموالي لهما من جهة أخرى، ويؤدي السيف وظيفته بربطه من أعلى إلى طرف شداد أو بطان الجمل الذي يجر المعصرة من جهة الصفحة اليمنى. وبواسطة السيف يتم جرّ سائر الحمولة التي تقع على الساحنة حتى تدور حول بدن المعصرة, وبدوران الساحنة يدور القوبع، ثم يدور السك تبعًا لذلك، كما سيأتي تفصيله. تشغيل المعصرة واستخراج الزيت: تمرّ عملية استخراج الزيت من السمسم بعدّة مراحل تبدأ من المرحلة التي تُعطى فيها الإشارة للجمل للبدء بدوران المعصرة، وتنتهي بتوقفه عن الدوران، وبالتالي توقف الجهاز بأكمله استعدادًا لجمع الزيت من جوف المعصرة. وأول هذه المراحل هي تنقية السمسم من الشوائب، ومعرفة كَيْلِهِ، إذ إن لكل معصرة قدرًا من كيل السمسم تبعًا لحجمها، واتساع جوفها الذي يُعصر فيه السمسم. وبعد ذلك تتم تهيئة المعصرة للتشغيل، وذلك بوضع السك بعد تنظيفه في جوف المعصرة، ثم تثبيت رأسه المدبّب في فتحة القوبع، وربط القوبع إلى السراويل، وتحميل الساحنة بالأثقال، ووصلها بالسيف، ثم تثبيت السيف على الصفحة اليمنى للجمل، وربطه بحبل في الشداد أو البطان المعدّ في تلك الجهة لهذا الغرض، كما سبق توضيحه. يتلو ذلك تكميم عيني الجمل بكمّامات سوداء تحاشيًا لإصابته بالدوران، وهو يدور لمدة طويلة حول المعصرة، ثم ربط خطامه بطرف القوبع إن كان جملًا مبتدئًا، أما إذا كان من الجمال المدرّبة على العصر فلا تحتاج إلى من يخطمها، بل تسلك سبيلها في الدوران حول المعصرة دونما صعوبة أو تلكؤ . وحينما تستكمل هذه الاستعدادات جميعها توضع حبوب السمسم في جوف المعصرة على جوانب السك، ثم تُعطى الإشارة للجمل للبدء بالدوران، وبدوران الجمل تدور معه الساحنة، وبالتالي يدور القوبع، ثم يدور السّك المتصل بالقوبع تبعًا لذلك مولدًا ضغطًا شديدًا على حبوب السمسم التي لا يلبث مع كثرة الدوران والضغط والتقليب من قبل العَصَّار، أن تتحوّل: بعد ساعة، أو أكثر إلى حبوب مجروشة، عندئذ يضيف العَصَّار إلى السمسم حوالي ليترين اثنين من الماء، ويستمر الدوران والتقليب حتى تبدأ فضلات السمسم في التجمع، وتشكيل طبقة صلبة تلتصق بجدران جوف المعصرة، ويتجمّع الزيت الخالص الرائق بين السك وهذه الطبقة التي تُسمى العُصَار أو الطُّخّ . وحينما يُصَفّى الزيت، وتنفصل المادة المترسبة من فضلات السمسم، تُعطى الإشارة للجمل بالتوقف، ويبدأ العَصَّار, أو العامل في غرف الزيت, وتجميعه في الآنية الخاصة به، ثم بعد ذلك يُقْلَع العُصَار من على جوانب جوف المعصرة، ويوضع في أكياس خاصة به بوصفه طعامًا مفيدًا للحيوانات، ولاسيما الجمل الذي يجر المعصرة. وبعد أن يتم غَرْف الزيت، وقلع العصار المترسّب على جدران جوف المعصرة، يتم سحب السك من مكانه، ووضعه جانبًا تمهيدًا لغرف الزيت المتجمّع تحت قاعدته. وهذا النوع من الزيت يسمى الخُزَانَة، وهو زيت قوي يُستخرج ساخنًا، ويكون من بين الوصفات التي يُوْصِيْ بها الأطباء الشعبيين لمرضاهم. ويُعَدّ زيت السمسم من العناصر الغذائية المهمة في حياة قطاع كبير من سكان المملكة العربية السعودية، ذلك لأنه يدخل في جميع أنواع الطبيخ، وفي صناعة الحلوى، ويُستأدم أو يصطبغ به هو نفسه مباشرة، ولاسيما مع الخبز المتّخذ من حبوب الدخن أو الذرة في المناطق الجنوبية. وأجود أنواع السليط في حدود علم الباحث السليط البارقي, نسبة إلى محافظة بارق, وهو من الأنواع التي تجد رواجًا في أسواق محافظة القنفدة, وأَرْدَاه ذلك النوع المعروف باسم: البَنْدَرِي, نسبة إلى بَنْدَر القنفدة الذي كان يُستورد عن طريقه من الخارج في زمن مضى, وهو زيت خفيف, سيّئ المذاق, كريه الرائحة, قليل الإقبال على شرائه مقارنة بالسليط البارقي, سواء ذلك الذي يرد إلى أسواق محافظة القنفدة مباشرة من بارق أم الذي يعصره أفراد من أسر بارقيّة هاجرت من بارق, واستقرت في بعض قرى القنفدة حاملة معها خبرتها في تجويد العصير؛ نذكر منهم أفرادًا من آل فارس من بارق, وأظنهم من ساحل تحديدًا, استقروا منذ مدة طويلة في قرية الجَرَد بمركز القوز بمحافظة القنفدة, واشتغلت بعصر حبوب السمسم, وبيع السليط المستخرج منه, ومن أشهرهم مِلْبِسْ بن علي, وشهرته: ابن علي ويلقّب بالزَّمْزَمِي رحمه الله. وقد علمت ألا أحد منهم الآن يمارس مهنة العصارة المتوارثة في أسرتهم, لاشتغال معظم ذراريهم بالوظائف الحكومية(١٦). ولزيت السمسم استخدامات أخرى غير استخدامه في الطبيخ، أو كونه أدامًا أو صبغًا للأكلين، ومن تلك الاستخدامات استعماله في دهن الشعر للرجال والنساء على حد سواء، وفي دهن الأبدان مثلما تُستخدم (الكريمات) الملينة للجلد في الوقت الحاضر، ويُستخدم كذلك في الاستعاط به من أوجاع الصداع(١٧)، وفي تطهير الجراح الغائرة, أو الجائفة، وتجفيفها، وتضميدها. ولاسيما تلك التي تسببها ضربات الآلات الحادة، أو السقوط الذي يترتب عليه جراحات نازفة، وكسور مضاعفة، ويُستخدم زيت الشعر في دهن المصنوعات الجلدية بهدف تطريتها، وكذلك في دهن السلاح لحفظه من الصدأ والتآكل، وأخيرًا وليس بآخر كان زيت السمسم أو السليط عنصرًا مهمًا في الإضاءة الليلية قبل معرفة القاز (الكيروسين)، حيث كان يُستخدم على نطاق واسع وقودًا في السُّرُج (جمع: سِرَاج) التي تضيء المنازل والمساجد ليلًا، وقد عُرف بهذه الوظيفة منذ ما قبل الإسلام، وفي العصور الإسلامية، وقد سبق لنا أن ذكرنا قول النابغة الجعدي الشاعر: يُضِيْءُ كمثلِ سِرَاجِ السَّلِيْــ ـــ ـــ ـ ـطِ لم يجعلِ اللهُ فيه نُحَاسًا ويُستخدم السُّخَام المتكثّف منه للاكتحال به لشدّة سواده على خلاف الاكتحال بالإثمد ذي اللون الرصاصي أو الرمادي. كما يُستخدم السُّخَام في صناعة الحِبْر الأسود بعد إضافة مادة الغراء أو الصمغ المُتَّخَذ من عصارة السَّمُر بغرض تثبيته عند الكتابة به. وفي الطبّ الحديث ثبت علميًّا أن لزيت السمسم أو السليط فوائد منها: • منظّم مستويات السكر في الدم • يخفّض ضغط الدم المرتفع . • يمتلك خصائص مضادة للأكسدة. • يساهم في علاج الإصابة بالتهاب المفاصل. • يقلّل من الآلام المزمنة عند استخدامه بشكل موضعي, لذلك يعمد كثيرون إلى استخدامه في التدليك والمساج. • يعزّز صحة البشرة والشعر لاحتوائه على فيتامين (هـ) المفيد لكل من الشعر والبشرة، وقدرته على تحفيز إنتاج الكولاجين في الجسم. (١٨) والخلاصة أن زيت السمسم، أو السَّليط كانت له استخدامات متنوعة تشمل جوانب متعددة من حياة قطاع كبير من السكان في جنوب غرب المملكة العربية السعودية عامة، وتهامة عسير بصورة خاصة, وكانت له سوق رائجة في مناطق مختلفة من مناطق المملكة التي تشتهر بانتاجه وتسويقه. ولم يقتصر رواج زيت السمسم على المناطق التي تجود فيها زراعته، وتكثر فيها معاصر الزيت المستخرج منه، بل تعدّى ذلك إلى تصديره منها إلى المدن والقرى الرئيسية في مناطق أخرى سواها . المصادر : (١) البارقي, أحمد بن مريف آل سعيد, الآثار والتراث في محافظة بارق, ط1, دون ناشر ومكان نشر, 1437هـ/2016م) ص ص 419-420. (٢) الشماس, سارة محمد, معاصر السمسم بين الماضي والحاضر, ط1, (القاهرة/ ببلومانيا للنشر والتوزيع, 1445هـ/2024م), ص16. (٣ ) الشماس, معاصر السمسم بين الماضي والحاضر, ص ص 16-17. (٤) أفادني بذلك الأستاذ فؤاد العامر الباحث بقسم الآثار والمتاحف – جامعة الملك سعود, وقد كان ضمن الفريق الذي نقّب عن آثار قرية «الفاو» في عدة مواسم متتالية, وعن هذه الحفرية انظر: الأنصاري, عبدالرحمن الطيب, «قرية» الفاو: صورة للحضارة العربية قبل الإسلام, (الرياض: جامعة الملك سعود, 1377هـ/1402م). (٥) الفاضلي, محمد عبدالقادر, شرح المعلقات العشر وأخبار شعرائها, (بيروت: المكتبة العصرية, 1429هـ/2008م), ص39. (٦) ابن منظور, محمد بن مكرم الأنصاري, إعداد يوسف خياط, (بيروت: دار لسان العرب, د.ت), ج 2, ص182. (٧) الأصفهاني أبو الفرج, الأغاني, ط2, (بيروت: دار الكتب العلمية 1412هـ/1992م), جـ5, ص5, هـ1. (٨ ) البارقي, الآثار والتراث في محافظة بارق, 419. (٩ ) الجلجلان: اسم مرادف للسمسم في جنوب غرب المملكة العربية السعودية, وفي تهامة اليمن, وتحتفظ الذاكرة الشعبية في بعض نواحي محافظة القنفدة بهذا القول: يَا جِلْجِلَان اليَمَن يُحِتّ حَتَّانَا * لا حَجّ وَلْد المَلِكْ حَجَّيْتُ حَتَّى آنَا (١٠ ) الصويان, سعد العبدالله وآخرون, الثقافة التقليدية في المملكة العربية السعودية «الحرف والصناعات», (الرياض: دار الدائرة للنشر والتوثيق, 1420هـ/2000م), جـ3, ص480. ( ١١) الفاضلي, المعلقات العشر, ص39. (١٢ ) ابن منظور, لسان العرب المحيط, جـ2, ص182. (١٣ ) الأصفهاني, الأغاني, جـ21, ص305. ( ١٤) ابن منظور, لسان العرب المحيط, جـ2, ص182. (١٥ ) انظر الرسم التوضيحي المرفق للمعصرة بكامل عدّتها. (١٦ ) رواية محمد بن مُلْبِس البارقي ولد ابن (ابر) علي الزمزمي المذكور في المتن, وكان يعمل في السلك العسكري حتى تقاعده, فله الشكر على تجاوبه, وكريم تواصله وإجابته على كل أسئلتي واستفساراتي في حدود علمه وإدراكه. (١٧ ) السَّعُوْط أو الاسْتِعَاط: أخذ المريض الدواء السائل عن طريق الأنف, فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يَسْتَعِط بدهن الجلجلان, أي دهن السمسم, انظر: المنهل الرَّوِيّ في الطب النبويّ, مجلد1, ص198 عن جامع الكتب الإسلامية https://ketabonline.com/ar, وعن تداوي النبي صلى الله عليه وسلم بالسعوط انظر: البخاري, محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي, صحيح البخاري, (بيروت: دار إحياء التراث العربي, د.ت.), جـ7, كتاب الطب, باب السعوط؛ أبو داود, سليمان بن أبي الأشعث السجستاني الأزدي, سنن أبي داود, (بيروت, دار إحياء التراث العربي, د.ت), جـ4, ص6, كتاب الطب, باب السعوط, ورأيت في صغري بعضًا من أفراد أسرتي من يستعط بزيت السمسم أو الجلجلان. (١٨ ) الشماس, معاصر السمسم بين الماضي والحاضر, ص ص 91-92.