هل دخلنا عصر ما بعد الهُوِيَّة؟

يَعْتَقِد الإنسانُ أن وعيَه حين وُلِد كان صفحةً بيضاء، وأنه هو مع مجتمعه المحيط به هم من رسموا معالم شخصيته فيما بعد. غير أن الحقيقة أعمق وأعقد من ذلك بكثير، فهو قد أتى إلى العالم محاطًا بشبكةٍ معقدة من الأنماط النفسية، وأنسجة خفية من الموروثات الثقافية التي تراكمت عبر أجيال وقرون، حتى غدت أشبه ببرمجة عقلية تسبق وعيه. هذه البرمجة لا تقتصر على القِيَم أو العادات فحسب، بل تمتد إلى طريقة فهم المرء للعالم، وتحديد من (نحن)؟ ومن هم (الآخرون)؟ إنها “ السيكولوجيا الجمعية” التي من أهم ملامحها: الانتماء العرقي أو التحالفي، والمعتقد الجماعي، والمشاعر المشتركة. حيث يرى علماء الأنثروبولوجيا أن المعتقدات الثقافية، إذا استمرت لقرون، تتحول من “آراء” قابلة للتغير إلى بديهيات راسخة تسكن اللاوعي الجمعي. هذا اللاوعي، الذي تحدث عنه عالم النفس السويسري”كارل يونغ 1875 -1961م” قائلًا “ اللاوعي ليس مجرد مخزن للرموز والأساطير، بل هو نظام كامل من الاستعدادات النفسية التي تتوارثها الجماعات وتظهر في ردود أفعال الأفراد” وأَضيف بأن المعتقدات الثقافية التي يتوارثها الناس جيلًا بعد جيل تنسج شبكة معقدة من القيم المحلية، التي تتجسد في الأمثال الشعبية، وتتجلى في القصائد العامية، وتبرز بالحكايات المتداولة، لتعمل عمل “البرمجة الخلفية” بحيث يصبح الانعتاق منها أمرًا يتطلب لياقةً عقليةً عالية، وطاقةً نفسيةً هائلة، وقد ذكر ذلك المفكر السعودي “عبدالله القصيمي 1907 – 1996م “ في كتابه “أيها العقل من رآك” كما قد طَوَّرَ عالم النفس الاجتماعي الفرنسي “غوستاف لوبون 1841-1931م” في كتابه الشهير “سيكولوجية الجماهير” فهمًا عميقًا لهذه الظاهرة، حيث خَلُصَ إلى “أن الحشود الجماهيرية غير مؤهلة للحكم العقلي، وغير ميَّالة كثيرًا للتأمل، وأن الأفراد عندما يصبحون جزءً من جمهور نفسي، فإن الروح الجمعية تزودهم بنوع من الروح الجماعية تجعلهم يفكرون ويتحركون بطريقة مختلفة تمامًا عن الطريقة التي كان سيفكر ويتحرك بها كل فرد منهم لو كان بمعزلٍ عن المجموعة “يكتسب هذا التحليل، الكلاسيكي في أصوله والعميق في جوهره، أهميةً خاصة حين ندرك أن البشر تطوروا في مجموعات صغيرة، حيث كان الولاء للجماعة مسألة بقاء. فالدماغ البشري ما يزال يحتفظ بآليات التعرف على (نحن) مقابل (هم) وهذا ما يفسر سهولة تشكيل الهُوِيات الجماعية حتى حول أبسط الاختلافات. كان “ كارل يونغ” يذهب إلى أن المعتقدات والرموز المتوارثة تعيش في “اللاوعي الجمعي” كأنماط متأصلة، تظهر في الأحلام، والحكايات الشعبية، وحتى في ردود الأفعال التلقائية. من المثير للاهتمام أن هذه الآليات النفسية لم تختفِ في الدولة الحديثة، بل أعادت تشكيل نفسها في قوالب جديدة؛ فحل “الحزب” محل “القبيلة” وظهر “الاتجاه الفكري أو القومي” كبديل عن “المذهب الديني”. في مجتمعاتنا العربية، يمكننا تمييز ست “صفائح” اجتماعية أساسية – ليست تكتونية بالمعنى الجيولوجي – بل هي ركائز للنفسية الجمعية تلكم هي: سيكولوجية الأسرة الممتدة، والقبيلة، والمنطقة، والدولة، والمذهب، والدين. وهي لا توجد منعزلة عن بعضها، بل تتشابك وتتفاعل لِتُكَوِّن في النهاية نمطًا إدراكيًا وعاطفيًا يتحكم في تفكيرنا وسلوكنا، بوعي أو بغير وعي. وما يميز هذه الديناميكيات النفسية هو طبيعتها المزدوجة؛ فهي قادرة على توليد أسمى درجات التكافل والتضامن بين أفراد الجماعة الواحدة، وفي الوقت نفسه هي قادرة على تأجيج الصراعات مع “الآخر” أو “الخارج” ويُعْرف هذا المفهوم في علم النفس الاجتماعي بـ “التحيز للجماعة الداخلية In-group favoritism “ حيث يميل الأفراد إلى تفضيل جماعتهم، وعدّها أنقى عِرقيًا، وأسمى أخلاقيًا، وأغنى بالمفاخر، ومن ثمّ أحق بالمكاسب، بينما تُواجَه الجماعات الأخرى بالازدراء أو بالريبة في أحسن الأحوال. تتجلى هذه الازدواجية بوضوح في أوقات الأزمات؛ فعندما يواجه المجتمع خطرًا خارجيًا، تعمل هذه الآليات على تعزيز التماسك الداخلي. ولكن بمجرد زوال الخطر، قد تتحول الطاقة نفسها إلى وقود لخلافات داخلية بين مكونات المجتمع ذاته. وما يشهده عالمنا المعاصر من اضطرابات سياسية، وتوترات اجتماعية، وحروب عسكرية، وهجمات إدراكية، ليس في جوهره إلا انعكاسًا لتصادم هذه الصفائح الاجتماعية، أو بعضها. شهدت “السيكولوجيا الجمعية” في العصر الرقمي الحديث، تحولات جذرية لم تشهدها البشرية من قبل. فبينما كانت دوائر الانتماء التقليدية محصورة في الأسرة والقبيلة والمنطقة والمذهب، ظهرت مرجعيات جديدة تتشكل في الفضاء الرقمي، حيث يتجمع الأفراد حول اهتمامات وأفكار مشتركة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مكونين ما يمكن تسميته “الجمهور السحابي” هذا التحول لا يعني اختفاء الصفائح التقليدية، بل تفاعلها وأحيانًا تصادمها مع المفاهيم الجديدة للانتماء الجمعي، حيث يمكن لأفرادٍ من خلفيات متنوعة أن يتجمعوا حول قضيةٍ أو فكرةٍ أو حتى مجرد شعورٍ مشترك. هذا التجمع الرقمي يخلق ديناميكيات نفسية جديدة تختلف عن تلك التي كنا نراها في الجماعات التقليدية. يتميز الجمهور السحابي بخصائص فريدة، منها سرعة التشكل والانتشار، والقدرة على تجاوز الحدود الجغرافية والثقافية، لكنه في الوقت نفسه هش وقابل للتفكك بسرعة. كما أنه يعتمد على آليات التضخيم الرقمي، حيث يمكن لفكرة واحدة أو مشاعر معينة، أو دعاياتٍ موجهة أن تنتشر بسرعة البرق وتؤثر على ملايين الأشخاص في وقت قصير. لهذا تبقى “السيكولوجيا الجمعية” أسيرة لمفاهيمها المتجذرة في العقل الجمعي، ورهينة لهيمنة التكنولوجيا الحديثة، وتطوراتها السريعة. “السيكولوجيا الجمعية” قوة هائلة تشبه السيل المنهمر، حيث يمكن أن يَسقي الأرض أو يجرفها. وإن إدراكنا لجذورها التاريخية والجغرافية والاجتماعية، وفهمنا لمكانِزمات عملها النفسية، هو الخطوة الأولى للاستفادة من طاقتها الخلَّاقة في بناء التماسك المجتمعي، بدل أن تتحول إلى أداة انقسام. فالإنسان، وإن كان ابن أسرته وقبيلته ومنطقته ومذهبه، إلا أنه قابل لأن يكون ابن الإنسانية كلها، إذا ما تحرر من مشاعره السلبية، وامتلك وعيًا نقديًا ومساحةً واسعةً للحرية الفكرية، ليكون التنوع والاختلاف مصدر قوة وإبداع لا كمصدر صراع وانقسام. إن فهم “السيكولوجيا الجمعية” في عصر الرقمنة يمنح صُنّاع القرار مفتاحًا لفهم الجماهير بكافة أطيافها، ويساعد على توجيهها بالاتجاه الصحيح، لا للسيطرة عليهم فحسب، بل لاستثمار طاقتهم الإيجابية الخَلّاقة، وبناء مجتمع ناهض لا متقوقع، وصياغة خطاب عقلاني متفتح على الآخر، لا غوغائي منغلق على ذاته. في الختام، يظل السؤال: هل ستصمد الصيغ الكلاسيكية للسيكولوجيا الجمعية أمام شهب الفضائيات والمنصات الرقمية؟ أم ستتشظى إلى نسخ متعددة، فيغدو لكل مجتمع أكثر من سيكولوجية، ويصبح للفرد الواحد أكثر من قناعة تتشكل إمّا بهواه أو وفق ما يصنعه له صانع المحتوى الإعلامي؟ وهل دخلنا بالفعل “عصر ما بعد الهُوِيَّة” فاضحت “الهُوِيَّات” من بقايا ما قبل العالم الرقمي؟ ثمة من يذهب أبعد، ويرى أنها قد تنقرض كما انقرضت الديناصورات، أو تتحور لتتشكل في صيغ جديدة لم تتضح ملامحها بعد. وربما نجد أنفسنا أمام مجتمعات غارقة في تشظٍ هوياتي يربك الأفراد ويهدد انسجامها الداخلي.