أن تكون أنت.

هذا ما تحاول الفلسفة الوجودية الوصول إليه. إن كلا من الوجودية والصوفية تنطلق من الذات، ولكن الفرق الواسع بينهما هو محاولة الوصول إلى تحقيق الذات في الوجودية، أي خلقها لهويتها. أما الصوفية فتحاول محو الذات أو تحوّلها من كينونة إلى كينونة أخرى. ليس هذا وحسب، بل إن الفرق الأهم هو أن ما تحاوله الوجودية لا يمكن الوصول إليه؛ لأن العوائق الاجتماعية: كالوراثة، والبناء المعرفي، وظروف الحياة العملية والبيئية، كل ذلك يفعل فعله لا إراديا في الفرد البشري؛ لذلك يعيش مصابا بمرض (القلق الجودي) وتصبح الحياة. بلا معنى. أما الصوفية فهي تطارد معنى فوق وجودها الفيزيائي، معنى فوق الوجود الحسي. ويسير كما أوضح هذه (العبثية) الشاعر الصوفي فريد الدين العطار في قصيدته العميقة (منطق الطير) فالطيور لما وصلت، في رحلتها المضنية إلى (السيمرغ) لم تر إلا نفسها، فالصوفي يسعى إلى هدف موجود داخله. ولكنه لا يهتدي إليه ويسير نحو هدف لا يمكن الوصول إليه هو التماهي مع الغيب. لذا يبقى تائها بلا هدف، ويبقى في ظمأ لأن يصل إلى صوغ معنى لحياته. إن خلق معنى للحياة ينبني على دعامتين: حرية الإرادة، وتحديد المعنى الذي تستحق الحياة أن تعاش من أجله. والصوفي لا يستطيع ذلك؛ لأنه يبحث في الغيب. يقول أدونيس في كتابه (الصوفية والسريالية) موضحا الهدف من تأليف الكتاب (إن غايتي هي التوكيد على أن في الوجود جانبا غامضا لا مرئيا مجهولا، وأن معرفته لا تتم بالطرق المنطقية، العقلانية، وأن الإنسان دونه، دون محاولة الوصول إليه كائن ناقص الوجود والمعرفة، وأن الطرق إليه خاصة وشخصية) هنا يفتح أدونيس بابا جديدا، ليس معروفا حتى للصوفيين أنفسهم، بل أستطيع القول: إن ما يقصده هو معنى فلسفي، وليس صوفيا. وأنا أعتقد أنه ليس هناك تصوف فلسفي على الإطلاق؛ لأن الفلسفة بناء عقلي، والتصوف بناء طوباوي. إذا أحببت أن تسكن طوبى من الطوباويات التي بناها من لم يسكنها، فسرّع خطاك قبل أن يحتلها الشعراء، والعاطلون من تحقيق الحلم، والمنتظرون لمطر الأماني. وأرجوك، بحرارة لا تعرف الرماد، أن تأخذ معك جميع المتصوفة، ولكن برفق، متمثلا بقول بشار: (ارفق بعمرو إذا حركت نسبته فإنه عربي من قوارير) .