
نحن لا نشبه أنفسنا دائمًا. الأفكار التي نتمسك بها اليوم، قد تكون هي نفسها التي رفضناها في الأمس بثقة لا تهتز. كأنما الحياة تختبر قدرتنا على التغيّر، تضع أمامنا ما كنا نرفضه لنراه لاحقًا من زاوية أخرى، فنكتشف أن يقين الأمس لم يكن إلا محطة عابرة في طريق أطول مما تخيلنا.هذه ليست خيانة للماضي، بل وفاء للحاضر، وتأكيد أن العقل الحيّ لا يرضى بالجمود. لليقين سحره، يمنح راحة وطمأنينة، ويمنح صاحبه شعورًا بأنه يملك الأرض الصلبة التي يقف عليها، ومع ذلك، فإن هذا السحر نفسه قد يتحول إلى قيد حين يصبح اليقين جدارًا صلبًا لا يسمح بالمراجعة ولا بالتساؤل. إن ما نراه حقيقة مطلقة في لحظة ما، قد يتحول في لحظة أخرى إلى سبب تعثّرنا أو تأخرنا، وما يصدق على مسارنا الفكري والشخصي يصدق تمامًا على حياتنا المهنية والمؤسسية. كم من مؤسسة ما زالت أسيرة يقينيات قديمة في التوظيف! كاشتراط عدد محدد من سنوات الخبرة وكأنها ميزان دقيق للكفاءة، بينما الواقع يكشف أن الخبرة نوع لا عدد، وأن من قضى سنتين مليئتين بالتحديات قد يكون أنضج وأقدر ممن قضى عشر سنوات في دائرة مكرورة. ومع ذلك، يُقصى الثاني لأنه لا يملك الرقم المطلوب، ويُقبل الأول لأنه اجتاز العتبة الزمنية. ويزداد الأمر وضوحًا في التمسك الجامد بالشهادات الجامعية، حتى في الوظائف الإدارية التي تحتاج قبل كل شيء إلى مرونة فكرية، وحسن إدارة للناس، وقدرة على اتخاذ القرار في ظروف متغيرة. حين تُختزل الكفاءة في ورقة جامعية، تُغلق الأبواب أمام تنوع الأفكار، وتتحول بيئة العمل إلى نسخ متكررة من نفس الخلفية، بما يعزز الجمود بدل أن يغذّي الابتكار. وفي المقابل، يبرز التعلم الذاتي كأفق بلا حدود، يفتح أمام أصحابه أبوابًا للتجريب والممارسة وبناء أنماط تفكير مختلفة، ويبرهن أن الرغبة في التعلّم والانضباط الذاتي يمكن أن تسبق في أثرها قيمة الشهادة الرسمية، وكما قال مارك توين بذكائه الساخر: “بعض الناس يحصلون على التعليم بدون الذهاب إلى الجامعة، بقية الناس يحصلون عليه بعد أن يتخرجوا من الجامعة.” جملة تختصر ببراعة أن الشهادة ليست غاية التعليم، ولا بدايته، بل مجرد مسار من مساراته العديدة. ولم يقف أثر هذه الطريقة في التفكير عند المؤسسات وحدها، بل انعكس على الأفراد أنفسهم. نرى في الدورات التدريبية مثلًا من يبحث عن أقصر الطرق لنيل الشهادة، ومن يكتفي بالمشاركة الشكلية طلبًا للورقة لا للمحتوى، بل وصل الأمر إلى وجود من يحوّلها إلى تجارة، فيبيع ويشتري في الحلول والواجبات، كأن قيمة التعلم أصبحت تُقاس بما يُعلّق على الجدار لا بما يترسخ في العقل. لا ألغي أهمية وقيمة التعليم الأكاديمي لدينا، ولا شك أنه يشهد تحسنًا مستمرًا، واستثمارات جادة لتطوير مناهجه، لكنه ما زال في طور التحسن ويحتاج إلى زمن ليستوي على مستوى الطموح، فلماذا نراهن على مخرجاته السابقة وكأنها الضمانة الوحيدة للكفاءة، بينما نعلم أن هناك مسارات موازية لا تقل جدارة، بل قد تمنحنا مرونة أكبر وقدرة أعلى على التكيف؟ في النهاية، المسألة ليست في الشهادات أو السنوات أو الأوراق في حد ذاتها، بل في الجمود الذي نحولها به إلى يقينيات مطلقة، وما نحتاجه هو إعادة النظر في وزنها، وأن نتذكر أن أثر التعلم يختلف بين الأفراد، وأن نفتح الباب أمام معايير أوسع تُنصف الخبرة النوعية والتعلم الذاتي والقدرة على التجديد. فالقيمة ليست في الرقم، ولا في الحضور الشكلي، ولا في الورقة الرسمية، بل في العقل الذي يظل قادرًا على التعلّم مهما تغيّر السياق. * مستشار موارد بشرية