حكاية بيت شعر.

أتذكر وأنا في مرحلة البكالوريوس، كنتُ مُولعًا بكتابة الشعرِ حدَّ الهوس، يُطارِدُني شيطانُهُ أينما ذهبتُ، تارةً أستجيبُ لهُ، وأخرى أتغلَّبُ عليه، هذا إن كان له شيطان كما يزعمُ بعضُ رواةِ العرب. كنت – حينها - أدّعي أنني في مرحلة النضج الشعري، وإن كنتُ لم أشب عن الطوق . أكثر ما يجذبني آنذاك هو مقرر الأدب بعصوره المختلفة، كان أستاذُه يملك أسلوبًا رائعًا، وطريقةً مختلفة في إيصال المعلومة. وذات يوم جرى بيني وبين صديقي جدلٌ كبيرٌ، وحوارٌ مثيرٌ. لقد كان يرى أن الشاعر يدركُ فحوى شعره، ويعرف تفاصيله وأجزاءه الصغيرةَ دون سواه، وأنّ ما يكتبه لا يمكن أن يكون له تأويل آخر عند غيره من المحللين والنقاد والمتذوقين، وكأنه لم يقرأ مقولة المتنبي المشهورة: ابن جني أدرى بشعري مني. ربما عدم تعاطيه لكتابة الشعر جعلته ينحو هذا النحو، ويفكر هذا التفكير. كنتُ أبتسم في وجهه، وأقول له: الشعر ليس عروضًا وتفعيلاتٍ تنتهي بالشاعر إلى معنىً صريحٍ خاصٍّ به، أو عالمٍ منتهٍ بالحقيقةِ، أو أنه صكٌّ مُفضٍ إلى شيء يملكه الشاعر. يا صديقي: المعاني غير الألفاظ، فاللفظ بنصه حق من حقوق الشاعر، ولا يمكن لأحد أن يعتدي عليه دون عزو، أو تضمين، أو اقتباس، بينما المعنى له أفقٌ واسع، ومجالٌ رحب، وقد يدركُ المتلقي ما لا يُدركه الشاعر. إنّ الشعر فلسفةٌ حيويةٌ، وعالمٌ مُفعمٌ بالاحتمالات، ومكانٌ يستظل تحت شجره أولو المشاعر والأحاسيس، ولو أنَّ ما تقولُهُ حقًّا لكان الشعرُ مجردَ تقريرٍ عن حادثة ما، أو هو قصةٌ حقيقيَّةٌ خالية من الخيال والحدسِ والجمال. ونحن في ذلك الجدل العارم الذي تطاير شرره، وتصاعد خبره، كتبتُ بيتًا في الوقت نفسِهِ، لا أذكر ما هو، وكيف شكله، ومن أيِّ بحرٍ هو، وأجزم أن فيه من العلل والزحافات ما فيه، وبعد أن فرغ أستاذ الأدب من محاضرته، وخرج من القاعة، هرولت أنا وصديقي إليه، وعندما اقتربنا منه التفت إلينا وهو مندهش، وربما انتابه شيءٌ من الهلع.. وقد كنت ذات علاقة جيدةٍ مع كثير من أساتذتي، لا سيما أساتذة اللغة العربية منهم. بادرَنا أستاذي بالسؤال ماذا تريدان؟ قلنا له: لدينا بيت شعر، وقد غاب عنا معناه، وصعب علينا مغزى الشاعر فيه، فهلَّا أسعفتنا بالإجابة، ثم قلتُ له البيت: فأجابنا بإجابة، لم تكن في خاطري وأنا قائل البيت، ولا أعذلُهُ في ذلك، بل في إجابته حالةٌ صحيَّةٌ لفهم الشعر وتحليله ونقده، وقد حاول أن يشرح باستفاضة، وأن يسقط عليه بعض النظريات النقدية، والمصطلحات الأدبية التي لم نكن نعرفها آنذاك، حتى شعرنُا بأنه قد قرأه منذ زمن طويل. ولما عُدنا القهقرى التفتُّ إلى صديقي ونشوة الانتصار تغمرني، وهو منكفئٌ على جسده، لم ينبس بنبت شفة.. قلتُ: أحيانًا نبدو واثقين من المعرفة كل الثقة، وقد نعتمد في ذلك على ذواتِنا، ونستندُ إلى أشياء عقلية نظنها هي الحقيقة، ولو أمعنا النظر لوجدنا أننا بعيدون عن ذلك، وربما ضيّقنا ما كان واسعًا، وحاصرنا ما هو منفتحٌ وشاسع. إذن الشعر بروحه وفضائه ووهجه لم يكن في يوم ما مقيدًا بقصدِ الشاعر وغرضه، بمعنى أنه لا يتجاوزه، ولا يتعدَّاه، ولو كان كذلك لوئدت كثير من القصائد والمعلقات عبر التاريخ، ومقولة (المعنى في بطن الشاعر) التي سار بها الركبان، وأصبحت كالمثل السائر، فهي تقال عند خفاء المعنى المقصود في بيت أو قصيدة، أو غموضه والتباسه، أو تعدد تفسيراته، ثم سارت فصارت تطلق على كل عبارة لا يُعرف المراد بها على وجه التعيين. هذه المقولة يعتريها كثير من اللبس والخطأ، وينقصها كثير من العقلنة والحياة، وهي هروب من الإمعان والنظر والتأويل. فالمعنى ليس في بطن الشاعر فحسب، فقد يكون في بطنه، وقد يكون في بطن غيره، وقد تتعدد المعاني لبيتٍ واحد، وأجمل الأبيات التي تقرأ بعدة معانٍ ومفاهيم، وربما توصل المتلقي إلى معنى أكثرَ جمالًا، وأصدقَ حسًّا غير الذي كان عند الشاعر، ولا يمكن أن تزهو القصيدة وتبتهج وهي في جوفِ قائلها.