الكتاب لا يهرم.

في زمن تتلاحق فيه الأخبار كما تتلاحق الموجات على الشاطئ، ويزدحم الأفق بالشاشات التي تتناوب على أعيننا بلا هوادة، طرح معالي الدكتور أحمد بن محمد العيسى، وزير التعليم الأسبق والمستشار في الديوان الملكي، سؤالًا خلال حديث عن فكرة جمع ما يكتبه في (إضاءات تربوية) ونشره في كتاب، فقال لسائله: “ومن يقرأ الكتب الآن؟” وكنت قد علقت على سؤاله في منصة “أكس”، لكنني رغبت في أن أكتب هذا المقال، إذ إن هذا السؤال ليس حكراً على حوار بعينه، بل هو من الأسئلة الدارجة على ألسنة الكثيرين. فأحببت أن تكون الفائدة أوسع، وأن يمتد النقاش ليشمل فكرة الكتاب والقراءة في زمننا. فالكتاب ليس سباقاً مع قارئ عابر، ولا بحثاً عن حضور فوري بين الأيدي، بل هو وعد مؤجل، ورسالة تودع في زجاجة وتلقى في بحر الزمن لتصل إلى من يشاء الله له أن يلتقطها. الهدف الأسمى من طباعة الكتب ليس أن نطارد القارئ الآن، بل أن نحفظ الفكرة، ونصون الإبداع، ونؤرشف اللحظة الإنسانية بما فيها من شعر ونثر وتأمل، كي تبقى حية في ذاكرة الأجيال. كتاب يكتب اليوم قد يجد قارئه بعد عقد أو قرن، وقد يثمر أثره في زمن لم يولد فيه بعد من يقدره. ولذلك فإن القول بانقراض القارئ يحتاج إلى برهان. فلو أن القارئ انقرض، لما استمرت دور النشر والمكتبات العربية والعالمية في إصدار آلاف العناوين كل عام، ولما امتلأت معارض الكتب بالزوار الذين يتوافدون إليها من كل حدب وصوب. ربما تغير شكل القراءة وتعددت وسائطها، لكن المعنى واحد، والشغف واحد، والقارئ ما زال يبحث عما يروي فكره، سواء كان الورق بين يديه أو شاشة مضيئة في كفه. لقد منحت التقنية الكتاب حياة أخرى، فصار يطير عبر الأثير في صورة نص إلكتروني أو كتاب مسموع، يناقش في أندية افتراضية، ويجد صداه في أبعد الأمكنة. لم تكن التكنولوجيا خصماً له، بل جسراً جديداً يعبر به إلى القلوب والعقول. قد لا يجد الكتاب قارئه في يومه، لكنه سيظل قائماً ينتظر من يفتحه ولو بعد زمن بعيد. الكتب لا تبحث عن القراء، فالقراء هم الذين يعثرون عليها حين تحين لحظة التلاقي. وحين نسأل: “ومن يقرأ الكتب الآن؟”، لعلنا نتذكر أن السؤال نفسه سيشيخ، بينما الكتب ستبقى شابة، تدق أبواب العقول متى شاءت، وتفتح نوافذها على عوالم لا يحدها زمن.