سردية هندسة الوعي المضاد.

في فضاءٍ افتراضيٍّ مزدحمٍ بالصوت و الصورة و الكلمة، لا تمرُّ المملكة العربية السعودية دون أن تكون في مرمى الاستهداف. فهناك سرديةٌ تُحاك بخيوطٍ دقيقة، لا ينسجها أفرادٌ متناثرون بقدر ما تُدبَّر في غرفٍ مغلقة، تتقاطع فيها مصالح دول، و أهواء جماعات، و أجندات أجهزة استخبارية تبحث عن منفذٍ إلى الداخل السعودي. هذه السردية لا تأتيك صريحةً أو مباشرةً، بل تتخفّى في هيئة تغريدةٍ عابرة، أو وسمٍ متصاعد، أو مقطعٍ مُقتطعٍ من سياقه. تبدو في ظاهرها نقاشاً أو نقداً، لكنها في جوهرها عملية منظمة تسعى إلى التشكيك و التشويش. الهدف ليس الحقيقة، بل خلق بيئةٍ رمادية يغيب فيها اليقين و يعلو فيها الصخب. يتكرر المشهد كثيراً: حادثة صغيرة تُضخَّم حتى تتحول إلى قضية كبرى، وقرارٌ إداري يُفسَّر بأنه انعكاس لفشلٍ لا وجود له، و مشروعٌ تنموي يُصوَّر على أنه مغامرة محكومٌ عليها بالسقوط. و هكذا تتحول الوقائع إلى مادة خام، تُصاغ في قالبٍ مشوّه، ثم تُقدَّم للرأي العام و كأنها “كشفٌ للحقائق”، بينما هي في الحقيقة هندسة للوعي المضاد. وراء هذه الحملات تقف جيوش من الحسابات الوهمية، تتوزع أدوارها كما لو أنها فرقة مدرَّبة: حساب يثير العاطفة بصورة صادمة، و آخر يقدّم روايةً “شبه موضوعية” ليوهم المتابع بالحياد، و ثالث يتقمص هوية سعودية أو خليجية ليضفي مصداقية زائفة. و ما إن يبدأ الخيط الأول، حتى تتبعه خيوطٌ أخرى، تتشابك جميعها لتصنع “رأيًا عاماً مصطنعاً” يتسرب إلى العناوين الكبرى في الصحافة الدولية. غير أن هذه السردية الممنهجة، مهما بدت متماسكة، تصطدم دائماً بوعيٍ سعوديٍّ حاضر. ، فالمواطن في هذه الأرض أدرك باكراً أن الفضاء الرقمي ساحة حربٍ لا تقلُّ شراسةً عن أي ساحةٍ أخرى، و أن التغريدة قد تكون أحيانًا أداة اختراق أشد وقعاً من الرصاصة. لذلك، أصبح المغرد السعودي جدار صدٍّ رقمي، يتقدم الصفوف بتفنيد سريع، و بسخريةٍ كاشفة، و بحقائق تجهض الأكاذيب قبل أن تستقر في الأذهان. أما على المستوى الرسمي، فإن الدولة لا تتعامل مع هذه الحملات كأصوات عابرة، بل كجزءٍ من مشهدٍ استخباريٍّ متكامل. فالقراءة الأمنية تدرك أن ما يُبثُّ على المنصات ليس معزولاً عن الصراعات الإقليمية و الدولية، و أن الحرب الناعمة لم تعد ترفاً بل خياراً استراتيجياً للخصوم. و من هنا يأتي الرد السعودي هادئاً لكنه محسوب: كشف الحقائق، و تقديم الأرقام، و إبراز الإنجازات على الأرض، وهو ردٌّ يثبت أن المملكة لم تعد هدفاً سهلاً في فضاء السرديات، بل لاعباً يصوغ سرديته الخاصة و يُسقط بها سرديات الآخرين. إن ما يجعل هذه الحرب خاسرةً منذ بدايتها هو أن المملكة لا تبني صورتها على الدعاية، بل على واقعٍ معاشٍ،فمن يزور مدنها، أو يطالع مشاريعها، أو يراقب حضورها السياسي و الاقتصادي، يدرك أن ما يُكتب في بعض الحسابات لا يعدو كونه سراباً رقمياً. الواقع أثقل من الوهم، و الإنجاز أبلغ من الأكاذيب، و التاريخ يميل دائماً إلى من يصنع المستقبل لا إلى من يكتفي بالضجيج. يمكن القول إن السردية الممنهجة ضد السعودية في وسائل التواصل الاجتماعي ليست سوى فصلٍ من فصول الحرب الناعمة، حربٍ لا تهدف إلى كسب معركة واحدة بقدر ما تهدف إلى استنزاف طويل المدى. لكنها حربٌ تصطدم كل يوم بوعي شعبٍ يزداد صلابة، و قيادةٍ تعرف كيف تحوّل التحدي إلى فرصة، و دولةٍ تؤمن أن السردية الأقوى هي ما يُكتب على الأرض لا ما يُبثّ في الفضاء. و هكذا، تبقى المملكة عصيّةً على محاولات التشويه، ثابتةً في مسارها، تُكتب قصتها بمداد الإنجاز لا بحبر الأكاذيب، و تستمر في صناعة سرديتها الكبرى: سردية وطنٍ لا يُهزم في معركة الوعي.