التوازن العقاري ورؤية ملك.

في يوم الأربعاء العاشر من سبتمبر 2025م، وأمام مجلس الشورى، ألقى سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ـ نيابة عن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ـ حفظه الله ـ الكلمة الملكية الضافية التي تناولت واحدة من أعقد القضايا وأكثرها التصاقاً بحياة الناس: كلفة السكن وارتفاع أسعار العقار. جاءت الكلمة ببيان مفعم بالثقة والوضوح، لتصف ما شهدته بعض المناطق من ارتفاعات غير مقبولة وتشوهات في السوق العقاري، مؤكدة أن هذا الملف لن يترك لعوامل المضاربة أو رهانات الاحتكار، بل ستعالج اختلالاته بسياسات حكيمة تعيد التوازن وتكفل أن يكون السكن متاحاً للجميع باعتباره حقاً أصيلاً وركيزة من ركائز الاستقرار الأسري والاجتماعي. لم يكن الحديث عن العقار مجرد قراءة لأرقام السوق أو تعقيب على حركة الأسعار، بل كان إعلاناً عن التزام عميق بالعدالة الاجتماعية. فالسكن ليس جداراً وسقفاً وحسب، بل هو بيت الطمأنينة ومظلة الكرامة، وهو أول لبنة في بناء مجتمع مستقر متماسك. ومن هنا جاء التوجيه الملكي الكريم بخفض كلفة العقار كرسالة حاسمة بأن رفاهية الإنسان هي الغاية، وأن سياسات الدولة تسعى لأن تترجم هذه العدالة إلى واقع ملموس. وقد أوضحت الكلمة أن المقصود ليس خفضاً وقتياً للأسعار، بل تأسيس سوق متوازن يفتح مجالات الاستثمار المنتج، ويزيد من المعروض السكني بتنوع يلبي احتياجات المواطنين، ويمنح المطورين والمستثمرين فرصاً عادلة قائمة على الشفافية والعدالة. إنها نقلة نوعية تجعل من العقار عنصراً أصيلاً في منظومة التنمية المستدامة، لا مجرد ساحة للمضاربات أو مضماراً للمكاسب السريعة، وتؤكد أن السوق العقاري السعودي قادر على أن يكون أنموذجاً يحتذى في الابتكار والتخطيط السليم. وما حملته الكلمة من رسائل يتجاوز حدود السوق ليصل إلى قلوب الأسر والشباب. فحين يتاح السكن الميسر، يستقر البيت، ويطمئن المستقبل، وتزداد القدرة على العطاء والإنتاج. إنها سياسات لا تنحصر في الجانب الاقتصادي، بل تمتد لتشكل بشائر حياة جديدة لكل مواطن، تبعث الطمأنينة وتفتح نوافذ الأمل، وترسخ الإحساس بالمواطنة والانتماء. ولعل تجارب الأمم الأخرى تؤكد أن العدالة في السكن كانت دوماً سراً في نهضتها، غير أن الكلمة الملكية جاءت لتقدم نموذجاً سعودياً متفرداً في معالجة كلفة العقار، يستلهم من التجارب ما ينفع، ويبتكر سياسات نوعية تنبع من خصوصية واقعنا وتطلعات رؤيتنا. إنها ليست تقليداً لمسار عالمي قائم، بل إضافة سعودية مميزة تثري التجربة العالمية، وتؤكد أن المملكة قادرة على أن تكون رائدة في صياغة حلول تحقق التوازن بين التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وترسم ملامح مدرسة سعودية خاصة في التخطيط العمراني والتنمية الشاملة. ومن بين التطبيقات العملية لهذه الرؤية جاءت منصة التوازن العقاري التي دشنتها الهيئة الملكية لمدينة الرياض، مخصصة لاستقبال طلبات المواطنين السعوديين الراغبين في تملك أراض سكنية داخل العاصمة، وفق ضوابط دقيقة وسعر لا يتجاوز 1,500 ريال للمتر المربع. وتهدف المبادرة إلى طرح ما بين 10,000 و40,000 قطعة أرض سنوياً خلال الأعوام الخمسة المقبلة، ما يؤكد أن توجيهات القيادة لخفض كلفة العقار تتحول إلى برامج واقعية تحفظ العدالة وتمنع المضاربات، وتمنح المواطن السعودي فرصة ملموسة للحصول على سكن ميسر. ومن الطبيعي ـ في هذا السياق ـ أن تتجه الأنظار أيضاً إلى سوق الإيجارات باعتباره جزءاً رئيسياً من تكلفة السكن، ورغم أن الخطاب الملكي لم يفصل الحديث عن الإيجارات تحديداً، فإن روح التوجيه القائمة على خفض كلفة العقار وتحقيق التوازن تحمل ضمنياً رسالة اطمئنان بأن السياسات المقبلة ستشمل هذا الجانب الحيوي، بما يحقق العدالة والاستقرار في سوقي التملك والإيجار على حد سواء. ولعل من أبرز ما ورد في الكلمة الملكية تأكيد أن الحكومة لا تتردد في مراجعة أي برنامج لا يحقق المصلحة العامة، بل تعيد صياغته أو تلغيه إذا اقتضت الضرورة. إنها رسالة قوة ومرونة في آن واحد، لتؤكد أن الإصلاح مسار متجدد لا يعرف الجمود، وأن المصلحة العليا هي المعيار الأول والأخير. لقد جاءت الكلمة الملكية لتضع ملف العقار في قلب الأولويات الوطنية، ولتؤكد أن خفض كلفة السكن وإعادة التوازن للسوق ليسا مجرد وعود أو شعارات، بل قرارات حاضرة وإرادة نافذة. ومن هنا فإن تأييدنا لهذه الكلمة ليس مجرد موقف صحفي أو انفعال عاطفي، بل هو تعبير عن ثقة راسخة بأن القيادة قادرة على تحويل الرؤية إلى واقع مزدهر، يحقق العدالة في السوق العقاري، ويجعل من كل بيت سعودي شاهداً على نهضة وطن ورؤية لا تعرف المستحيل.