في كتاب « ربما عليك أن تكلم أحداً » ..

رحلة في عمق النفس الإنسانية .

في حياتنا المليئة بالتحديات، نميل أحيانًا إلى الإعتقاد أن العلاج النفسي مخصص فقط لأولئك الذين يعانون من أزمات كبرى أو انهيارات واضحة. لكن كتاب “ربما عليك أن تكلم أحداً” للمعالجة النفسية والكاتبة الأمريكية لوري غوتليب، يكسر هذه الصورة النمطية، فهويكشف لنا أن الحديث مع معالج قد يكون في لحظة ما ضرورة إنسانية عامة، لا استثناءً فرديًا . الكتاب مكون من 550 صفحة بترجمة القديرة نادين نصر الله عن دار التنويروهو ليس مجرد عرض أكاديمي لأساليب العلاج النفسي، أو نصائح جاهزة للحياة، بل هو عمل أدبي ـ إنساني يجمع بين السيرة الذاتية وقصص مرضى حقيقيين (مع تغيير تفاصيلهم حفاظًا على الخصوصية). ومن خلال هذا المزيج، نستطيع أن نطل على العالم الداخلي للمعالج النفسي الذي يضطر أحيانًا لأن يجلس هو نفسه على مقعد المريض. تبدأ لوري غوتليب كتابها بقصة شخصية؛ إذ تجد نفسها في أزمة عاطفية بعد انفصال مفاجئ عن شريكها. ورغم خبرتها الطويلة كمعالجة، تدرك أنها عاجزة عن معالجة ألمها وحدها، فتقرر اللجوء إلى معالج يدعى “ويندل”. هنا يحدث الانقلاب السردي الجميل: المعالجة تصبح مريضة، ونكتشف من خلالها أن حتى من يمتلك الأدوات النفسية يحتاج أحيانًا لمن يعكس له ذاته ويساعده على فهمها, هذه النقطة بالذات تشكل رسالة محورية في الكتاب: المعالجون ليسوا كائنات خارقة، بل بشر يمرون بأزمات، والجلوس مع الآخر قد يكون طريقًا للشفاء. وعن تعددية وجوه الألم الإنساني وعلى مدار الفصول، تنسج لنا الكاتبة مجموعة قصص عن مرضاها المتفاوتين في ظروفهم فمن بينهم رجل ناجح مهنيًا وماديًا، لكنه يعيش متغطرسًا يخفي جرحًا عميقًا , و سيدة مسنّة تفكر في إنهاء حياتها بعد إصابتها بالسرطان، لكنها تكتشف قيمة الأيام الباقية بفضل جلساتها , , مروراً بشابة مشتتة في اختياراتها العاطفية، تبحث عن الاعتراف بذاتها أكثر من البحث عن الحب , من خلال هذه الشخصيات، نرى أن الألم الإنساني يتخذ أشكالًا مختلفة، لكنه يلتقي عند نقطة واحدة: كل إنسان يحمل قصة خفية تحتاج من يصغي إليها. كما يوضح الكتاب أن العلاج النفسي ليس وصفة سحرية أو حلًا سريعًا، بل هو رحلة لتفكيك القصص التي نرويها عن أنفسنا. كثيرًا ما نصبح أسرى لسرديات داخلية تحد من قدرتنا على النمو، مثل: “أنا لست كافيًا”، “لا أحد سيحبني”، أو “الحياة قاسية معي دائمًا”. وفي غرفة العلاج، يدرك المرء أن هذه السرديات ليست حقائق مطلقة، بل نصوص يمكن إعادة صياغتها بطريقة تمنحه أفقًا جديدًا. من بين الرسائل العميقة التي نقلها الكتاب كذلك هو أن الألم لا يمكن أن يختفي تمامًا، لكنه يصبح أكثر احتمالًا حين نفهمه ونقبله , وأن النمو الشخصي يبدأ حين نمتلك شجاعة مواجهة أنفسنا بصدق. يمكن القول أن كتاب “ربما عليك أن تكلم أحداً” هو عمل يمس القلب بقدر ما يثري العقل. إنه يفتح نافذة على العوالم الداخلية التي غالبًا ما نخفيها خلف ابتساماتنا اليومية. والأهم من ذلك، أنه يجعل القارئ يتساءل: هل أعيش حياتي بصدق مع نفسي؟ هل أحتاج بدوري إلى أن أكلم أحداً؟إنه ليس كتابًا عن الآخرين، بل عن كل واحد منا، وعن شجاعة مواجهة الحياة بالكلمات، لا بالصمت. اقتباسات من الكتاب .. “الأشخاص المتطلّبين والمنتقدين والغاضبين، غالبًا ما يعانون وحدة شديدة. وأنا أعلم أن الشخص الذي يتصّرف على هذا النحو يريد أن يُرى وفي الوقت عينه يخشى أن يُرى “  “السلام. لا يعني ذلك أن تكون في مكان يغيب عنه الضوضاء أو المشكلات، أو العمل الشّاقّ. يعني أن تكون وسط هذه الجلبة، ومع ذلك تشعر بالسكينة في قرارة نفسك”  “هؤلاء الأشخاص الذين يصعب التعامل معهم ما هم إلا نحن، أحيانًا الجحيم هو نحن.”  “لا يسعنا أن نحدث أي تغيير من دون خسارة، الأمر الذي غالبًا ما يدفع بكثيرين إلى التأكيد على أنهم يريدون التغيير، لكنّهم مع ذلك يبرحون مكانهم، لا يتغّيرون.”