كيف كتب الأدباء الكبار أعمالهم ..

خيوط الحياكة الأدبية .

تتخلق خيوط الحياكة الأدبية عبر علائق متصلة من المعاناة وتولد ضيئلةً وهشةً حتى تشتد أليافها فتصبح قادرة على صناعةِ قطعة أدبية فريدة وساحرة يجترح الكاتب نمذجتها متحلياً بشغفه فينبسط نسيجها على نحو متسق ومتماسك رابطاً بين تجاربه المحسوسة وفلسفته الحياتية. هكذا يُخال النزوع الغريزي للمعاناة حين يُفصح عن نفسه ويتفاعل مع محيطه من خلال عمل إبداعي يشبه كثيراً ضم السَّدَى إلى اللُّحْمة، وهو ماتنبه إليه كثير من الأدباء فأدركوا أن كتابة الأدب هي في الأصل تحوير للحظات البؤس إلى صور بديعة وحياكتها بمغزلهم الخاص، فطفقوا يطورون أدواتهم حتى يتمكنوا من تطويع معاناتهم وتحويل القسر العاطفي إلى صور ملهمة ونسجها ببراعة وإتقان. وفيما تخبرنا كيمياء الإبداع أنه ينشط في حيز المعاناة وينبثق عنها كزهرة في شق صخرة تفترض ضمناً أن الإزاحة الناتجة عن تكبدها تخلق نتاجاً رفيعاً من الأنشطة النفسية، العلمية منها والفنية والأدبية كذلك، وأن تراكمها داخل الذات المبدعة يصل بها إلى لحظة التجلي، وترشدنا نحو الكثير من التجارب الأدبية والفنية التي تحاجج دون ما تفترضه، بل وتعده شائعاً في أوساط المبدعين، كما تخبرنا في الآن ذاته أن المعاناة هي من شكل خارطة الآداب والفنون وحاك حدودها. وفيما يتصالح معظم الكتاب مع تلك الحقيقة بل ويؤمن جلهم أن أمد المعاناة قد يكون معياراً يقاس إليه مستوى إبداعهم واستدامته عطفاً على تلك النفحة الحارقة من البؤس التي كلما امعنت تمدداً في روع أحدهم تعاظمت قدرته على الابتكار وازدهرت أدواته واستحضرت مخيلته قدراً واسعاً من الصور البديعة وثمة من يرى أنها ليست سوى ترياق نفسي ونشوة تمد يدها لتعينه على إزاحة الصخرة الجاثمة على صدره وأن صور الإبداع التي تتخلق في مخيلته هي مجرد رسومات منمقة لحياة بائسة، ولذلك فهو يمارسها كطقس من طقوس التشافي، ولكنهم يتفقون على أن الخيوط الضئيلة لاتنسج عملاً مثالياً أيما كان أثره. ذكرت الكاتبة والروائية التشيلية الشهيرة إيزابيل الليندي، أحد الأمثلة التي ستلح على ذهن القارئ فور تيقنه أثر المعاناة في خلق الإبداع، إلى ترحالها إبان طفولتها وصباها وما أعقب اغتيال عمها الرئيس التشيلي سلفادور الليندي في انقلاب عام ١٩٧٣م من أحداث مروعة أدت إلى انتزاعها وعائلتها من تربة وطنهم الخصبة إلى جدب المنفى وما لذلك من أثر بالغ في تشكل تجربتها الأدبية بيد أن معاناتها جراء إصابة إبنتها «باولا» بداء البورفيريا كانت ذات تأثير أبلغ وأثر أعمق أحالا ذلك القسر العاطفي إلى إصدار بديع حمل اسمها ودونت الليندي من خلاله سيرتها الذاتية وما اختزنته ذاكرتها واعتمر روعها من حكايات أضفى عليها اسلوبها الروائي ولغتها الأدبية طابعاً سحرياً أظهر معاناتها وعاطفة الأمومة وهي تتدفق بحنو متجاوزةً الصفة البيولوجية الفطرية إلى حالة شعورية تنازع اللاوعي طبيعته الخاملة ووصفت علاقتها الدافئة بإبنتها على نحو بديع ومؤثر. لم تكن الكتابة هنا وفق مبدأ المتعة ولم يكن السرد الذي يمارس جذبه المتناهي يتبع قانون التبجح بل كانت رؤى وخبرات حياتية وانهماك بالذات ودلالات عميقة حيكت بعناية. «باولا» الذي جاء على هيئة سيرة ذاتية تصف معاناة طويلة لصبية كانت كقوس قزح حائم ظلت الشمس تطارده حتى انطفأ، أسدى للقارئ صنيعاً ثميناً وأعاد إلى عاطفته شعوراً دافئاً خطفته يد المادية الثالجة، وكذلك فعل الكاتب والروائي التشيكي «فرانز كافكا» الذي عانى مرضي السل والاكتئاب إضافة إلى إغترابه الوجودي الذي أجبره على أن يعيش مشحوناً بقلق الفناء وهشاشة الجسد حين نسج بشعور الإخفاق والخيبة المخبوء في روعه «المسخ» وشيد «القلعة» بيأسه الوجودي وأقام «المحاكمة» بمخاوفه ومواقفه، فقدم سرديات رمزية وسريالية خالدة بقيت حتى بعد أن قضى مشحوناً بقلقه ونزعاته العصابية العميقة. وبطريقة مباشرة تختلف عن رمزية كافكا وصفت الكاتبة الأمريكية د. كاي جاميسون من خلال مؤلفها البديع «عقل غير هادئ» معاناتها إثر إصابتها بداء ثنائي القطب وكفاحها ضد نوباته الضارية وماتخلل إصابتها من قصص سردت بطريقة جمعت بين اللغة الأدبية الرفيعة والمعرفة الطبية التي خبرتها جيداً من خلال عملها كطبيبة في علم النفس السريري، وخلصت إلى نجاعة العديد من الأدواء لكنها أكدت على أن جرعاً كافيةً من العاطفة الأسرية هي من يجعل السلام والهدوء يسريان في روع المريض، وكذلك فعل الأديب المصري طه حسين الذي فقد بصره إثر إصابته بداء الرمد حينما لم يكن علاجه ممكنا، الكفيف الفقير الذي واجه الحرمان الإجتماعي والفكري بطاقة إبداعية أحالت معاناته إلى مَعلمٍ بارز في مسيرة النثر العربي عبر الكثير من الأعمال الخالدة أحدها هو كتاب الأيام الذي افرغ فيه خلجات روحه وسكب ماثقفت ذاكرته من بؤس الطفولة وعناء الصبا وألم الشباب ليكتب أحد أهم السير الأدبية، وقد سارت على أثره أو سيرت الكاتبة السعودية شريفة العسيري في مؤلفها «أنا وأبطالي» سردها لمعاناتها التي امتدت لعقدين ونيف بدأت عندما ولد أحد ابناءها بداءٍ نادر يدعى التليف الكيسي البنكرياسي وأُكتشف لاحقاً عقب سلسلة من الفحوصات الطبية والحقن الوريدية والمهدئات التي تناوب الأطباء والممرضون على وخز بشرته الرقيقة بها إبان رحلاتهما الليلة إلى المشافي حيث يصبح العالم مزيجاً من الأردية البيضاء والأدوية النفاذة، فكانت طريقتها في مؤازرة نفسها ومن حولها والتغلب على مخاوفها وتوثيق وتأرخة لأعوام طوال. نسيج غليظ من الآلام الجامحة يخنق سمت الكاتب ويحيل هدوءه إلى قلقٍ متنامي ومن خلال الهبوط الى أقصى درجات البؤس والمعاناة تصبح كتابة عملاً متوهج ومشع أكثر إمكانية ويمسي خيط الحياكة أكثر طواعيةً.