الوجوه الغائبة في عالم «الزهايمر».

ما أصعب أن تنسى أجمل ذكرياتك وصور أحبابك، أن لا تستطيع أن تمسك بحاضرك أو ترسم مستقبلك، فتعيش للثواني القادمة فقط، تنسى أسماء من حولك، تنسى الملامح والأحداث والحكايات، تبقى محصورًا في زاوية النسيان تسأل عن هذه الوجوه من حولك مائة مرة ولا تتذكر، ثم تنسى أنك كنت تسأل، لا تعلم متى أكلت ومتى كنت جائعًا، في أي وجبة أنت الآن ومتى آخر فرض صليت، يتساوى عندك الليل بالنهار، وتبقى الأسئلة والقصص المكررة على لسانك. تنسى الحاضرين أمامك وتبحث وتنادي على الأموات كأنك تراهم، تضيع لديك بوصلة الإدراك الحسي كأنك تجلس وحيدًا، ويصبح الجميع حولك غرباء بالنسبة لك.  إنه الزهايمر حين يسلب الإنسان  أعز ما يملك فتضيع الذاكرة الهشة بين الوجوه من حوله، ويتبادر له سؤال داخلي: من أنا ومن هؤلاء حولي؟  لا هم بالغرباء عني ولا بالمعروفين لي؟ فهذا يناديني يا أبي وهذه تناديني يا جدي! وذاك يبتسم لي ويسألني عن أشياء غير مفهومة، وتدور في ذهنه المشوش أسئلة صامتة، حائرة: متى تزوجت؟ متى أنجبت؟ وأنا منذ دقائق كنت أنادي على أبي وأمي اللذين ماتا منذ سنين.  إنها أسئلة وحيرة الزهايمر عندما يداهم الإنسان، لا يستطيع أن يتعرف على ملامح من كانوا يومًا حوله ومحور حياته. ما أصعب أن يبدأ الإنسان في فقدان أثمن ما يملك: عقله وذاكرته، ما اصعب أن تتساقط صور أحبته واحدًا تلو الآخر من مخيلته ، فلا يعود يعرف إن كان يعيش في الأمس أم في اليوم، ولا يدرك أن كان هناك غدًا ام لا،  لا يعرف إن كان الليل ليلًا أو النهار نهارًا. الزهايمر ليس مجرد مرض يضعف الذاكرة، بل رحلة بطيئة من الغياب عن الذات وعن العالم معًا. مريض الزهايمر يعيش في محيط النسيان محصورًا في دائرة اللحظة القصيرة، لا ماضٍ يستند إليه ولا حاضر يعيشه بوعي كامل ولا مستقبل يستطيع أن يتخيله. يسأل السؤال نفسه عشرات المرات وكأنه يسمع الإجابة للمرة الأولى. أو كما قال عنه بصيغة تهكمية أشهر من أصيب بالمرض، الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغان: “ هذا مرض جميل ، تقابل الأشخاص أنفسهم وتظن انك ترى وجوهًا جديدة كل يوم “ لكن المعاناة لا تتوقف عند المريض وحده. فالأهل والأبناء والمحيطين به يعيشون ألمًا مضاعفًا؛ يرون من يحبون يتلاشى أمام أعينهم شيئًا فشيئًا. الابن الذي طالما وجد في أبيه السند والقوة، يقف عاجزًا أمام نظرة فارغة لا تعرفه، والزوجة التي عاشت عشرات السنين معه لم يعد الآن يتذكر حتى اسمها. الأحفاد الذين طالما كانوا يلتفون حول جدهم بالضحكات  او الانبهار حين يسرد لهم الحكايات، الآن لا يعرفهم، لا يتذكرهم. وكأن المرض لا يسلب المريض ذاكرته فقط، بل يسلب من حوله دفء العلاقة والحضور الإنساني الذي كانوا يجتمعون حوله  الزهايمر مرض يظهر لنا قسوة الهشاشة البشرية؛ كيف يمكن لعقل ملأ الحياة يومًا بالحضور الجاد والحكمة والهيبة والمنطق المتزن بالحكمة أن يصبح عاجزًا حتى عن تذكر وجبة تناولها منذ لحظات. يعلّمنا معنى الرحمة، وكيف يصبح الصبر على من فقد ذاكرته قمة الوفاء والإنسانية، وأقل واجب يمكن أن نقدمه.  ولأنه من الأمراض التي لم يتم اكتشاف علاج او لقاح لها إلى الآن فقد بدأ الاهتمام بالمرض يزداد من قبل الأطباء والباحثين المتخصصين في أمراض الشيخوخة  خصوصاً بعد تزايد اعداد المصابين به على مستوى العالم  ومحاولة فهم اعمق للمرض ومسبباته وطرق الوقاية منه واعتماد انجع الادوية التي توصلوا لها للحد من تدهور حالة المريض وتأخير الأعراض قدر الإمكان، كما اعتمد العالم شهر سبتمبر كشهر للتوعية بمرض الزهايمر  ورفع مستوى الوعي  بالمرض والدعم للمرضى،  كفانا الله واياكم وجميع احبابنا منه . إنها رحلة ليست سهلة، لكنها تحمل في طياتها دعوة صامتة: أن نُكثر من الحب والاهتمام قبل أن ينطفئ الوعي، وأن نحفظ حكاياتنا في قلوبنا قبل أن تضيع في فراغ ذاكرة منسية.