حيدر العبد الله يكتب عن ديوان علي الدندن ..

كائنات المجاز وحسد الأقران .

لا أكتب مقرّظًا ولا ناقدا، إنما أكتب حاسدا. نعم أكتب حاسدا لبدع شاعر مذ عرفته وأنا أتطلع لعبقريته وأتوسل طرائق جنونه. علي الدندن ذو الأسماء المئة، الذي كلما نزل في صخرة نبت، شاعر متلألئ ماؤه بأحزانه، “وفي الأسانيد قالوا: كاذبٌ ثقةُ.” ما برح متصرّفا في فنه، يفرض تقاليده الشعرية لينقلب عليها، ويقول حين يقول ليخون القول علاه، وليغدر لسانُه بأذنه. أما وإني قد فليتُ شعره، وحككتُ معدِنه، فسأنذر هذه الورقة لا للإشادة بإعجازه الإبداعي، وإنما لتدبر مناويله ورصد كائناته. يقسم سيجموند فرويد النفس البشرية إلى ثلاث طبقات: طبقة الهُو وهي مجموعة الغرائز البدائية في أوج طفوليتها وحيوانيتها، تقابلها طبقة الأنا العليا التي تمثل الأخلاق والفضيلة والضمير الإنساني، ثم طبقة الأنا، وهي الذات الناضجة والمتصالحة مع الواقع. ولو حاولنا غربلة نصوص كائنات المجاز بمناخل فرويد النفسية هذه، لوجدنا أن ثلثها قصائد تنتمي إلى طبقة الهُو، طبقة التلذذ الأعمى، والاستغراق في الليبيدو، إنها تمظهرات شعرية للغريزة البربرية الصرفة، غير المشذبة بالمثالية والوعي الأخلاقي، أسميها الفجاجةَ الجميلة: وعضة النهد لولا بربريتها لم ينضَج الطفلُ حتى يفهم القبلا إنها بربرية عالقة في طورها الفموي، توثق المحاولات الحثيثة لقطع المسافة من لغة العض إلى لغة التقبيل: أولى التجارب ضعهما في جنة وامنحهما تفاحة وأظافرا خذ كل يأسهما وحاول رجه في قبلة تجد الهباء الآسرا الفم وسيلة الإنسان الأولى في استكناه العالم، فهو المعادل الموضوعي للبداية. نلحظ في هذه الطبقة من أشعار الدندن، عودته الدائمة للحظة الخلق والولادة، وهي ظاهرة أسميها طللية التكوين، فلو قرأت قصيدة تجارب الكائن، أو الخلود، أو الرجل الذي امرأة، لشعرت أن مقدماتها مستلةٌ من أسفار العهد القديم: في القدر قدر البدء ثمة نسوةٌ يمزجْنَ آدمهنّ في حوائهنْ قلنا لطابخنا وما زلنا على المقلاةِ ملّحْنا بملح بهائهنْ ولأن الدندن الطفلَ المتعب من الركض في الأصلاب، ليس “فمًا مؤجلا”، ولأنه على خطى عمر بن أبي ربيعة: “طفل ويشتاق النساء سكاكرا” فإن علاقته بالأنثى تظل رهينة غريزة طفولية دفينة، فهي قاتلته المشتهاة حينا، وقبلُه المفرّغة من الأنهار حينا آخر. “وأقول لها وهي تشحذ رعشتَها وتُغيرُ عليّ بكامل إسفنجها ودبابيسها في العراء اقتليني اقتليني كما ينبغي بقتيلٍ وخالقةٍ” أما الطبقة الثانية من قصائد الدندن، فهي قصائد الأنا العليا، قصائد الضمير والحكمة، والحزن الرسولي النبيل، ما أعبر عنه بالظاهرة اليسوعية: مني إلي، إلى أنا مستقبلي كن غيمة تهب المحبة يا علي نجد يسوعية الدندن متجلية في نصوص تتتسم بوقار التعاليم والشمائل النبيلة، مثل: لوّحتُ للقناص، مقام الوجع، والوصية، واكتمال السوسن: آه لو ينمو مزيدا ساعدي لاحتضان الناس ما أمكنني فهو الذي في عمق همه النبوي يمد لحمه طعامًا لجياع الأرض. وهو الذي، على خطى المسيح بن مريم، يحوّل خده الأيسر لصافع خده الأيمن: باركت أعدائي حضنت فوادحي خذ وردةً للجرح قلت لجارحي لوّحت للقناص صوب جيدًا هو ذا طريق دمي وهذا جانحي إلا أن هذه الشعرية المستغرقة في هموم الأنبياء، ليست خلوا من أحزانهم الحارقة: محدودبَ الروح أنأى في البعيد بما حُمّلته من بكاء العالم الفزعِ مضرجٌ بالصراخات التي سفحت دمع السماء على إنسانها الجشعِ أما الطبقة الثالثة والفائقة من شعرية الدندن، فهي طبقة الأنا الناضجة المتصالحة، حيث الكتابة بالحدس، لا بوقار الضمير، ولا بفجاجة الغريزة. حين يكتشف الدندن شعرية “الحنين إلى ما لا يُرى”، “حنين الدمشقي للقرطبي”، يتنكب خطى المسيح وابن ربيعة. وحين تمتحن حبيبته ذائبية قلبه بماء الكلام، يصلي صلاة الصمت، فيعلو صوته الفرد: لأنهم قبل خلق الصمت قد صمتوا قالوا فخان علاه القولُ والشفةُ وحينما غسلوا بالصبح أعينَهم مرُّوا من الشعر عريانا وما التفتوا يتفوق الدندن على نفسه حين يغالب نوازعه ويذيبها في تضاعيف شعره، ويتجرأ على تجريب العابر، “فالسرُّ في العادي لا في المذهلِ” وقد يحدث في هذه المرحلة المتقدمة من الإبداع المفرط، أن يخلخل الدندن منظومة القيم البشرية السائدة، فلا تعود الفحولة عنده ذات بال: “إن الكلام امرؤ والشاعر امرأة” و”نحن الرجال إذن نساء نسائنا” ولا يعود الموت موضع تطيُّر بل محط شفقة وتعاطف: “كل المفردات يعدن من عيد القصيدة بالهدايا حاملات قندة الأسرار إلا الموت . . يعتريني أن أكون نديم سهرتها ونمضي مثل عاشقة وعاشقها لأول رقصة” ولا يعود الغدر من خوارم العشق والمروءة: “يتهادى العشاق الغدرة في عيد الحب ليشتد العشق حريقا، فالغدرة والوردة أختان لأم واحدة” و”الغدرة أم الشعراء جميعا” أما بعد تطبيع الدندن المقنع مع الغدر، فإني لا أجد غضاضة في التطبيع مع الحسد. وإني له على شعره لمن الحاسدين. فعليه بالمعوذات، والملح والحرمل، لعل في ذلك نجاة له من العين. وإني لأشتهي أن أشتمه من هول ما يأتي به أتيُّه. وإن أهول ما أتى به أتيُّه سبع قلائد،، أسميها الدندنيات السبع، وهي قصائد كثيرة الماء، لا أعلم لها نظيرًا من شعره ولا شعر غيره، قصائد تخبّبُ بينك وبين معهودك من الشعر العظيم، تمنيتها لي: قصيدة الحزن، وقصيدة الغدر،وقصيدة الموت، وإفريقية، وقلبي بَندول ساعتها، والرجل الذي امرأة، والمشّاء الأخير، التي لا أعرف سببا لاختفائها من النسخة المطبوعة سوى أنها ليست من الوحي ولكن “من سكوت النبي.”