القراءة وطوفان الصور.

14 مليار صورة تُشارَك يوميًّا على مواقع التواصل الاجتماعي، لا بد أن يمر على المتصفح العادي منها مئات كل يوم، أما المتصفح المدمن فربما يطالع منها الآلاف. لا يمكننا إلا أن نسمي ذلك طوفانًا؛ لأنه يحمل معاني ودلالات هذه الكلمة بكونه لا يدع مجالًا أو وقتًا لأنشطة أخرى أو أنه يقضم منها كثيرًا. وأهون الضائعين في هذا الطوفان البصري هو القراءة التي تتطلب من محبها درجة من الهدوء والتركيز بعيدًا عن التقافز السريع بين الصور المتسارعة التي تمر على المتصفح والتي تسرق لب البعض، وتشتت عقل الأغلبية ممن يطالعها. ويؤثر طوفان الصور هذا على القراءة على وجه الخصوص؛ بسبب طبيعة الصور التي تأتي جاهزة ولا تتطلب أي تفكير أو تحليل للرموز والوصول بعد جهد إلى استنتاجات كما هي القراءة. فالبشرية التي كانت شفهية ثم تحولت إلى كتابية، تحولت اليوم- أو تكاد- إلى صورية، وهو ما يعني، فيما يعنيه، طريقة مختلفة في المعالجة؛ حيث تتعامل الصورة مع مناطق في الدماغ تختلف عن تلك الخاصة بالقراءة، وهو ما يؤدي إلى استجابات فورية، ويوصل المعلومة بسرعة فائقة. لكن هذا النوع من المعلومات الذي يعتمد على الصورة يفتقد أمرًا جوهريًّا؛ وهو العمق الذي يميز قراءة النصوص، فضلًا عن الجهد الذي يبذل في فهم النصوص مقابل السهولة الفائقة في فهم الصور. ويأتي هذا الجهد من الحاجة لفهم الرموز المكتوبة وفي منطقة أخرى من دماغ الإنسان، ورغم أنه أبطأ من فهم الصور فإنه ضروري للعقل الذي قد يركن للدعة والكسل وضعف التركيز من جراء الاكتفاء بمطالعة الصور دون القراءة. هو أشبه ما يكون بخلط الطعام ومزجه جميعًا وإضافة منكهات له ثم تناوله، أو تناول احتياجات الجسم عبر كبسولة غذائية كما يفعل رواد الفضاء؛ فهي تفي بالغرض الغذائي منها لكنها لا يمكن أن تغني عن التغذية المعروفة وما تمر به من عملية مضغ ثم بلع فهضم قبل أن ينتقل الطعام إلى جسم الإنسان. فلا يمكن أن يقول أحد إن بلع كبسولات غذائية كل يوم كاف للإنسان، حتى وإن توفرت فيها جميع العناصر الغذائية المطلوبة يوميًّا. فقد يتأثر حينها الفم والأسنان وجميع أعضاء الجهاز الهضمي الذي قد يصاب بالكسل نتيجة ذلك فلا يعود بعدها قادرًا على أداء مهمته التي خلق من أجلها. وكذلك من يتعود على الصور فإنه قد يفقد جزءًا كبيرًا من قدرته على الصبر وعلى فهم النصوص بعد مدة من إدمان الصور، هذا علاوة بالطبع على فقدان عمق معاني النصوص المطبوعة أو المكتوبة، والتخلي عن جانب التخيل المتاح للقارئ. وهو ذاته ما يحصل لأي شخص يشاهد فيلمًا محولًا من رواية وهو مضطجع على جانبه، بحيث يتكفل الفيلم باستعراض ما يجري، مقابل الرواية المطبوعة التي تتيح للقارئ مجالًا لتخيل الأشخاص والمواقع والأحداث كما يشاء. وهناك من المفاهيم الحياتية المهمة التي لا يمكن للصورة أن تنقلها بشكل كامل ودقيق، كبعض الأفكار المجردة أو الفلسفية التي يصعب استيعابها بغير النص المكتوب أو المطبوع. على أنه لا يمكن أن نعد ثقافة الصور سلبية بالكامل؛ نظرًا لما تحمله من إيجابيات؛ منها قدرتها الفريدة على نقل بعض الأفكار بسهولة من خلال استخدام الرسوم البيانية مثلًا لتوضيح فكرة ما، أو حسن استخدام الرسوم التوضيحية التي تسمى إنفوغرافيك، وهو ما يمكن ملاحظته أكثر في المواضيع العلمية أو التقنية. كما يمكن توظيف الصورة بفعالية بحيث تكون عامل جذب يستدرج القراء لكي يبدؤوا قراءة أي مادة مكتوبة، كما تغدو الصورة المعلومة أطول بقاء في الذاكرة حين توظف بفاعلية جنبًا إلى جنب مع النص المكتوب. لا نتحدث هنا عن ضرورة إقصاء الصورة أو وقف نشر الصور أو مطالعتها، بل عن تخفيف الاندفاع القوي نحو تصفح الصور، ومحاولة تحويل الطوفان الصوري إلى آخر نصي يعزز توجه عامة الناس إلى الكتب. ولا يمكن تصور أن الموضوع بهذه السهولة فهو بحاجة إلى جهد كبير، إن على الصعيد الشخصي أو المجتمعي، لمحاولة تعديل مسار سلوكنا تجاه الصور وتحويله جزئيًّا نحو النصوص والقراءة، هي صعبة حتى على الكبار ممن قرأ كثيرًا في طفولته وشبابه، فكيف بالجيل الجديد الذي فتح عينيه على الصور والصور المتحركة والأفلام؟ نحتاج إلى جهود جبارة، إضافة إلى توازن في التعامل مع الصور والنصوص كلًّا على صعيده الشخصي ثم الأسري والمجتمعي.